أفكار وآراء

الخروج من السوق

03 أكتوبر 2018
03 أكتوبر 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

تبدو الكلمات معتادة ولها قبول منطقي ، القادر على المنافسة يبقى ، و غير القادر يخرج ، ويحل محله من هو أكثر كفاءة . هذا هو قانون السوق فهل من معترض ؟ . لا اعترض ! .  هناك وجهات نظر أخرى ، ترى أن هناك طرقا بديلة للتعامل مع النشاط الاقتصادي وإدارته ، وأن الدول لا يمكن ان تسير بقواعد السوق وحدها. لكن لن أتحدث عن ذلك. ما أسعى إليه هو النظر في القانون السابق حين يصبح واقعا في حياة شركة أو مصنع ...مدير أو مهندس أو عامل ..في حياة قطاع ينتمي اليه الأصل الذي سيخرج من السوق. في حياة الاقتصاد كله اذا كان للأمر دلالات أبعد ؟ . أنت الآن مثلا تعمل في مصنع اسمنت في البلد « س». عمرك يدور حول 35 عاما. أمضيت في العمل كفني قرابة خمسة عشر عاما. لك بيت وزوجة وأبناء، كنت تحصل على أجر تحسد عليه فضلا عن حوافز معتبرة .النشاط في القطاع الذي اخترته او اختارته لك الأقدار اصبح منذ نحو5 سنوات يتسم بمنافسة حادة للغاية ، ليس على صعيد البلد فقط ولكن ايضا على الصعيد الاقليمي . رهان مصنعك في مواجة التباطؤ في الداخل او شدة المزاحمة كان هو التصدير . التصدير لا يمكن ان يتم الا الى أسواق قريبة ، لأن تكلفة نقل تلك السلعة مرتفعة كما نعلم . فقد المصنع تدريجيا هذه الساحة الخارجية، وكان اول ما قام به لتفادي آثار ذلك هو تقليل عدد ساعات العمل . او إنجاز كل الصيانات الكبيرة المطلوبة مرة واحدة ربما تتحسن الأحوال بعد انتهاء تلك الصيانات التى تستغرق اشهرا . وكانت الخطوة التالية هي إحالة بعض العاملين الى التقاعد، الثالثة خفض الاسعار ولو على حساب هوامش الأرباح التي لا يجب التنازل عنها ، بل وأحيانا رغم معرفة المصنع بأن الأسعار التي قرر ان يبيع بها تقود الى خسارة . المصنع يريد ان يحتفظ بحصته السوقية أو يزيح  آخرين جانبا نسبيا ويحل محلهم . طال امد التباطؤ وظهر ان الطاقات الزائدة في القطاع ( صناعة الاسمنت في حالتنا ) اكبر من أي محاولة لامتصاصها او تفادي تأثيراتها. تبدأ مرحلة التواصل المكثف مع الميديا ومع البرلمان والسلطة التنفيذية للبحث عن حل، خلال تلك المرحلة نبدأ في التعرف على خلفيات في الصناعة لم نكن نعرفها بهذه الدقة . منها مثلا تكاليف كل عملية في المراحل الإنتاجية المختلفة ، وحجم صادرات كل شركة ، وحجم احتياجاتها من النقد الاجنبي لاستيراد بعض المكونات او معدات او قطع غيار .. ، ونعرف ايضا المواقع الجغرافية المفضلة للتوزيع لكل شركة ، والتبدلات التي طرأت عليها نتيجة تغيير الحوافز وطرق السداد والتسهيلات . حسنا ! ، لكن من الذي سيستفيد من كل ذلك والجميع يعاني؟. واقعيا فإن بعض الشركات تكون اقدر على الصمود لفترة اطول من غيرها نتيجة وجود قدر من السيولة والاحتياطيات لديها او أي عوامل أخرى ، لكن في النهاية سيصل الجميع الى نقطة حافة التوقف . عند تلك اللحظة تشتد حمية كل لاعب ( شركة ) بدافع غريزة البقاء ، وتتأرجح المصائر بندوليا ، فيقال ان اول شركة ستخرج من السوق هي كذا . او مذا او كيت . احيانا تستعين اطراف بالنفوذ الذي يمكن ان تصل اليها لتؤخر سقوطها الى ان يسقط آخرون قبلها ، لأن سقوطهم سيعيد قدرا من التوازن الى السوق ، وبالتالي يمكن لمن تمكن من الثبات ان يبقى في الدورة الجديدة الصاعدة والتي تستغرق سنوات مرة اخرى قبل ان تأتي دورة هبوط كالتي نصفها توا . اتوقف قليلا لأقول ان حدوث فائض كبير في الطاقات الانتاجية بالدول الصناعية الكبرى كان احد اهم اسباب الحروب بين الدول الكبرى ولا ننسى الحربين العالميتين الاولى والثانية ، وانه من حسن الحظ حاليا ان التشابكات

العالمية تحول دون تكرار ذلك الى حد بعيد ، وإن كانت الدول الكبيرة تستخدم الحروب الفرعية او الاقليمية ايضا سبيلا الى تحطيم طاقات قائمة من اجل عقود إقامة /‏‏‏‏‏ إنشاء طاقات جديدة او طريقا للحصول على خامات بأسعار اقل او حتى بلا ثمن. نعود الى سيناريو مصنع الاسمنت فى البلد « س». يبدأ الرأي العام في التنبه الى وجود معركة سيكون لها أثر على سلعة تهمه . يسخن النقاش العام حول ما ربحته الشركات سابقا وانها تلاعبت بالمستهلكين وقت ازدهارها ،  وترد الشركات بأن ارباحها طوال الوقت الماضي كانت في المتوسط تدور حول متوسط ارباح الصناعة بشكل عام ، وان رفعها للاسعار كان بسبب ارتفاع الخامات والوقود والاجور الخ . يدخل عنصر جديد جدا اذ تتحدث اطراف عن ضرورة إيقاف شركة عامة معينة لأن خسائرها تجاوزت ضعفي رأس المال وحقوق المساهمين اصبحت بالسالب منذ فترة ، وأنها لا يمكن ان تصمد او تنافس ، وان اقصى ما يمكن عمله معها هو تصفيتها ، وبيع أصولها كافة لسداد ما عليها من مديونيات وكذا سداد استحقاقات العمالة التى سيتم تسريحها . تعرفون حساسية الرأي العام في مثل تلك الحالات ... تحاول الحكومة إبداء اكبر قدر من الموضوعية والحيدة ، فترشح لجنة هندسية متخصصة من خبراء مرموقين ، لتقر هي ما اذا كان ممكنا للشركة العامة ان تستمر ام تتم تصفيتها؟ . القلوب مشدودة والاعصاب متوترة . الانتظار يطول ، وفجأة تهب رياح العدم ... فاللجنة توصي بالتوصية كحل وحيد. الحيرة تضرب العقول وترتبك ردود فعل العمالة ما بين مطالبة بتعويض عادل محدد او بعدم الرضوخ لمنطق التصفية رغم ان العمالة لا تعرف بالفعل كيف يمكن ان تستمر الشركة وتعوض خسائرها او اغلبها لا يعرف على وجه الدقة . يدخل اتحاد العمال حتى لا يبدو انه خزل النقابيين بالشركة او العمال عامة . يتكئ على حجة لا يمكن نكران اهميتها وهي ان وجود شركة او شركات عامة بين عديد من الشركات الخاصة في اي نشاط يحقق قدرا من التوازن في السوق من ناحية العرض وسعريا ، وان انفراد القطاع الخاص بالسوق ستكون له عواقب سيئة . داخل بيوت العاملين المشاعر متأججة ... رب الاسرة يحسب كم سيحصل عليه من تعويضات ، وكيف يعيش به ولمدة كم ؟ وهل ما لديه من مدخرات كافية ؟ ولأي مدى واين يمكن ان يبحث عن عمل جديد والصناعة كلها في حالة انكماش ؟ وهل يغير صنعته ومتى يمكن ان يفعل ذلك بالضبط ؟ وما مصير ما استدانه او راهن عليه من دخل ليحصل على سلع رأسمالية او سكن بالتقسيط ؟ وغير ذلك من الامور المعاشية . الحياة بكل تناقضاتها تتجلى هنا، فالأمس كان يوما حلوا واليوم مر لكن ما الذي يحمله الغد يا ترى ؟. ثم فلنفترض ان المصنع خرج من السوق بالفعل هل يعد ذلك كافيا لاعادة قدر من التوازن الى السوق بحيث تعود المصانع الاخرى الى العمل بكامل طاقتها والبيع بأسعار اعلى لتحقق ربحا مرة اخرى ؟ ام مازال هناك مشكلة فائض عرض ؟ ما هي المعايير التي يمكن بها الإخراج هذه المرة ام ستمتد لعبة عض الاصابع بين الجميع فترة اخرى فقد تحدث خلال ذلك المعجزة ويعود قطاع الانشاء والتشييد والعقار الى الازدهار؟  او يحدث توقف لطاقات فى بلد آخر مجاور فترفع فرصة الصادرات التى ظهرت فجاة بعض الضغط عن المنتجين القائمين وتؤجل المواجهة؟.

أرأيتم كيف ان النظريات رمادية - مثل نظرية العرض والطلب والكفاءة وعدم الكفاءة - بينما شجرة الحياة خضراء ...تورق بالاسئلة والقلق حينا ، وبالإجابات والمكافآت اخرى  ؟.