أفكار وآراء

روما وبروكسل وأزمة الموازنة

03 أكتوبر 2018
03 أكتوبر 2018

عبد العزيز محمود -

يبدو أن خطط إيطاليا لموازنة عام ٢٠١٩ لا تتماشى مع مطالب أوروبية بتقليص العجز العام ليكون في حدود ١.٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمواجهة عبء الدين العام الذي يجعلها ثاني أكبر مدين في منطقة اليورو بعد اليونان.

فالموازنة الجديدة التي أعدتها حكومة جوزيبي كونتي اليمينية الشعبوية تتبنى سياسات مالية توسعية لدفع عجلة النمو، مما سيؤدي إلى أن يكون العجز العام في حدود ٢.٤٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال الثلاث سنوات القادمة.

وهي نسبة تتجاوز نسبة الـ١.٦٪ التي حددها الاتحاد الأوروبي، ونسبة الـ ١.٨٪ التي اقترحها وزير الاقتصاد الايطالي جيوفاني تريا، وأيضا نسبة الـ ٠.٨٪ التي حددتها حكومة سيرجيو ماتاريلا السابقة.

لكن حكومة كونتي التي تشكلت في يونيو الماضي ترى ان الموازنة الجديدة لا تتعارض مع معاهدة ماسترخت المؤسسة للاتحاد الأوروبي والتي تشترط أن يكون العجز العام في إطار ٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

كما أن هذه الموازنة ضرورية لتنفيذ تعهدات انتخابية من جانب حزب رابطة الشمال وحركة خمس نجوم اللذين يشكلان الحكومة بزيادة الإنفاق العام وزيادة الدخل الأساسي وخفض الضرائب وتقديم إعانات للأسر الفقيرة وخفض سن التقاعد.

المشكلة أن تنفيذ هذه التعهدات يتطلب قروضا إضافية تتجاوز ١٢٠ مليار يورو سوف تضاف إلي الديون القائمة والتي تقدر بنحو ٢.٣ تريليون يورو وهو ما يعني تفاقم أزمة الديون التي سوف تتجاوز ١٣١٪ من الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا وهو ما يتعارض مع معاهدة ماسترخت التي تشترط ألا تتجاوز نسبة الدين العام لأي دولة في الاتحاد الأوروبي ٦٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي حتى تتمكن من سداد ديونها.

ومع إقرار البرلمان الايطالي للموازنة الجديدة في ٢٧ سبتمبر الماضي، من المتوقع عرضها على مفوضية الاتحاد الأوروبي بحلول منتصف أكتوبر الجاري، وسط توقعات برفضها أو مطالبة إيطاليا بإجراء تعديلات جوهرية عليها.

وهي تعديلات من المرجح أن ترفضها حكومة كونتي انطلاقا من حق إيطاليا كدولة ذات سيادة في وضع ميزانيتها، وسط تهديدات من حركة خمس نجوم الشعبوية بمغادرة إيطاليا للاتحاد الأوروبي، إذا تمسكت بروكسل بمطالبها.

والحقيقة أن الموازنة الايطالية الجديدة تثير استياء المفوضية الأوروبية، التي تطالب روما بتقليص العجز العام إلى ١.٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي للسيطرة على الدين العام، لكن حكومة كونتي مصممة على إبقاء العجز العام في حدود ٢.٤٪ على أمل دعم الطلب المحلي ورفع معدلات النمو وإعطاء دفعة للاقتصاد الإيطالي على المدى القصير، تسمح لروما بسداد ديونها بوتيرة أسرع العام المقبل.

بل إن الحكومة الايطالية تخطط لاستثمار ١٥ مليار يورو في الموازنة الجديدة لجعل إيطاليا أكثر ملائمة للمستثمرين الأجانب خلال الثلاث سنوات القادمة وهو ما يعتبره الاتحاد الأوروبي أمرا مثيرا للقلق، ربما يدفع إيطاليا إلي هاوية مالية، فالنمو المستهدف من خلال الحافز المالي سوف يأتي متأخرا، بينما سترتفع تكلفة الاقتراض بشكل حاد، مما سيزيد من تكلفة خدمة الدين (٣.٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، وهو ما يعني استمرار الأزمة الاقتصادية وحالة عدم اليقين السياسي.

ومع زيادة الفجوة بين الإنفاق والدين العام، سوف تصبح أزمة الديون أكثر تعقيدا من مثيلتها اليونانية، خاصة مع ضعف قدرة إيطاليا علي سداد التزاماتها وعودة الدين العام للارتفاع نتيجة زيادة الإنفاق. وهكذا فإنه مالم تبادر حكومة كونتي بالحد من الإنفاق العام وضمان الاستخدام الأمثل للموارد فإن الاقتصاد الايطالي سوف يدخل دائرة الخطر بسبب ضخامة الدين العام وتراجع الاستثمارات وزيادة الانكماش.

وطبقا لتوقعات بروكسل فإن نمو الاقتصاد الايطالي قد يصبح الأبطأ في منطقة اليورو التي تضم ١٩ دولة خلال عامي ٢٠١٨ و٢٠١٩ مما يعني صعوبة تحقيق معدل النمو المستهدف وقدره ١.٥٪ خلال عام ٢٠١٩

وهو وضع قد يدفع الاتحاد الأوروبي لمواجهة خيارات صعبة لإنقاذ إيطاليا سواء بالإشراف على إعادة هيكلة ديونها، أو وقف كافة أشكال الدعم لها، حتى تلتزم حكومة كونتي بسياسة التقشف التي التزمت بها الحكومات السابقة، وحتى لا يتسبب تفاقم أزمة الديون في انهيار منطقة اليورو.

ومن جانبه يتخوف البنك المركزي الأوروبي من تعرض إيطاليا لأزمة أسوأ كثيرا من أزمة اليونان التي تعرضت لانهيار مالي في عام ٢٠٠٩، صحيح أن بروكسل ساعدت روما على تجميد أزمة الديون في بداية العقد الثاني من الألفية، وربط حزمة المساعدات التي قدمتها بخفض الأنفاق العام، لكن حكومة كونتي ترى أن تخفيف أزمة الديون يتطلب شطب ديون إيطاليا المستحقة للاتحاد الأوروبي (٢٥٠ مليار يورو)، وهو مطلب ترفضه بروكسل التي لا تملك الأموال الكافية لتنفيذ ذلك، وحتى لا تحذو دول أخرى حذو إيطاليا

ومع تبيان وجهات نظر الطرفين تبدو المواجهة بينهما حتمية، فروما تتمسك بالموازنة الجديدة على أساس أنها لا تتعارض مع معاهدة ماسترخت، وبروكسل تدعو لإجراء تعديلات جوهرية على الموازنة لخفض العجز العام إلى ١.٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي والدين العام إلى ٦٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

وهكذا فإن إيطاليا أمام خيارين لا ثالث لهما: الدخول في مواجهة قاسية مع الاتحاد الأوروبي بكل ما يترتب على ذلك من نتائج، أو مواجهة الفشل التام، وسقوط الحكومة، ودخول البلاد في خضم أزمة سياسية، سوف تتبعها غالبا أزمة اقتصادية أشد.

وفيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي الذي يتمسك بعضوية إيطاليا، نظرا لأهميتها ووزنها السياسي، فإنه يدرك جيدا أن قدرته علي قمع تمرد إيطاليا هذه المرة، لا يعني نهاية المشكلة، فالمواجهة قابلة للتكرار مستقبلا مع تطور الأزمة الاقتصادية.

ولا حل لهذه المعضلة إلا أن يبدي الطرفان قدرا من المرونة في المواجهة المتوقعة بينهما منتصف أكتوبر الجاري، وإلا فإن الباب سوف يبقى مفتوحا على كل الاحتمالات.