الملف السياسي

حائط صد يتحمل الفشل الذي يصنعه الاعضاء !!

01 أكتوبر 2018
01 أكتوبر 2018

د. عبد الحميد الموافي -

في ضوء حقيقة ان الامم المتحدة ، أو غيرها من التنظيمات الاقليمية والدولية ، تعمل وفق قواعد محددة تحددها مواثيقها ، فان فشلها وعدم تحقيقها لأهدافها ، يعود في الواقع وفي المقام الاول للدول الاعضاء فيها ، وتحديدا الدول ذات التأثير الاكبر في عملها ، والتي تملك وسائل تأثير عديدة ، مباشرة وغير مباشرة ،

ليس من المبالغة في شيئ القول بأن الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للامم المتحدة – الدورة العادية التي تبدأ في الثلاثاء الثالث من شهر سبتمبر من كل عام وتمتد حتى نهاية العام تقريبا – هي من اهم الاجتماعات التي تعقدها هيئات الامم المتحدة ، وتكاد تكون الاجتماعات الوحيدة التي تحرص كل الدول الاعضاء في الامم المتحدة على المشاركة فيها ، أو في جانب منها على الأقل ، وبالمستوى السياسي والدبلوماسي الذي تراه مناسبا لها . وتعود هذه الأهمية الى عدة اسباب في الواقع ، فالجمعية العامة للامم المتحدة هى الهيئة الوحيدة من هيئات الامم المتحدة التي تضم كل الدول الاعضاء في المنظمة الدولية الأم ، كما ان هذه العضوية تقوم على المساواة بين الدول الاعضاء ، حيث يتمتع كل منها بصوت واحد ، سواء كان عدد سكان الدولة عدة آلاف أو مليار أو اكثر ، وسواء كانت الدولة جزيرة صغيرة في اي من محيطات العالم ، أو كانت بعظمة امريكا او روسيا أو الصين أو غيرها ، فالجمعية العامة للامم المتحدة هى بيت العائلة ، حيث لكل عضو فيها حقوقا قانونية متساوية ، يضاف الى ذلك ان الجمعية العامة للامم المتحدة هى الهيئة التي توضع امامها ، وعلى جدول اعمالها ، كل القضايا الدولية تقريبا ، بما في ذلك القضايا التي مضى عليها عدة عقود كالفضية الفلسطينية ، ومن تحقيق السلام الى مواجهة الحروب ، ومن الحفاظ على المناخ الى التنمية المستدامة ، ومن القضاء على الاستعمار الى القضاء على المجاعة ، ومن مواجهة الارهاب الى الحد من انتشار اسلحة الدمار الشامل ، تسعى الجمعية العامة الى التوصل الى قرارات ، هى في جوهرها توصيات ، تقوم على الالتقاء بين دول العالم حول العمل من اجل عالم افضل . ولآن كل الدول تعرف البعد ، أو الوضع القانوني لقرارات الجمعية العامة للامم المتحدة ، وأنها غير ملزمة ، الافي حالات محددة – كأن تكون الاجتماعات في اطار بند « الاتحاد من اجل السلام « اذا فشل مجلس الامن في التعامل مع موضوع محدد وتمت احالته الى الجمعية العامة – فان كل دول العالم تقريبا تحرص على المشاركة في هذا المهرجان الدولي السنوي ، ليس من اجل حل القضايا الدولية المزمنة ، أو تلك الطارئة ، أو حتى قضاياها المباشرة ، سياسية كانت أو اقتصادية أو غيرها ، لانها تعرف جيدا ان ذلك لن يتحقق خلال الدورة السنوية للجمعية العامة للامم المتحدة ، فالحلول لا توجد ولا تصنع في الجمعية العامة للامم المتحدة التي تضم 193 دولة ، أي 193 صوتا ، ولكنها تشارك وتحرص على الحضور لأسباب تخصها وتخص مصالحها هى في المقام الأول ، ومن ابرزها الا يفوتها حضور هذا المهرجان الدولي من ناحية ، والحديث امام العالم وتقديم مواقفها ورؤاها ووجهة نظرها حيال ما يهمها من قضايا وتطورات ، ومحاولة احداث اكبر قدر من التفهم ، أو التعاطف مع مواقفها ، باعتبار ان اجتماعات الجمعية العامة تعبر في النهاية عن الضمير العالمي ، ومن المهم محاولة التأثير فيه ، أو على الاقل بناء صورة ايجابية لديه عن الدولة وعن سياساتها ومواقفها من ناحية ثانية . وقد يتساءل البعض هل ان الدول تتجشم كل عناء ونفقات المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك عاما بعد آخر ، لمجرد الحديث عن مواقفها وسياساتها؟ الاجابة بالقطع لا ، لأنه اذا كانت خطب قادة ورؤساء الدول ووزراء خارجيتها وممثليها من على منبر الجمعية العامة هى ابرز المظاهر ، فان لاجتماعات الجمعية العامة وظائف سياسية ودبلوماسية اخرى ، على جانب غير قليل من الأهمية بالنسبة للدول ولبعض المجموعات والتجمعات الدولية ، وهو امر يظل مهما ومقصورا على الدول والمجموعات الدولية التي تسعى الى ذلك وتمارسه ومدى النجاح فيه . وفي هذا الاطار فانه يمكن الاشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب ، لعل من اهمها ما يلي :

*اولا: ان ادراك وفهم طبيعة ودور الامم المتحدة باعتبارها التنظيم الدولي الأم في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، والمعبرة ايضا عن النظام الدولي خلال السنوات الثلاث والسبعين الماضية ، لا يمكن ان يتم من منطلق طوباوي ، أو مثالي ، يستند على ما ينبغي أن يكون ، أو على ما هو مأمول على هذا المستوى أو ذاك ، لسبب بسيط هو ان ذلك غير ملائم وغير صحيح ايضا ، ليس فقط لأن السياسة الدولة وعلاقات الدول لا تقوم على مثاليات وآمال تسبح في الفضاء ، ولكن ايضا لأن الامم المتحدة هى في النهاية منظمة دولية ، خرجت الى الوجود نتيجة للحرب العالمية الثانية ، وبعد ويلات الحرب الي راح ضحيتها نحو ستين مليونا من البشر ، وبرغم اية آمال أو تطلعات ، فان الامم المتحدة ، بكل هيئاتها ، هى في النهاية منظمة يحكم عملها ميثاقها ، ومبادئه وبنوده وقواعده ، والمهم ان كل الدول الأعضاء ، صغيرة كانت أو كبيرة تدرك ذلك وتتعامل على اساسه وفي حدوده ايضا ، بغض النظر عن اية حملات اعلامية تقوم بها هذه الدولة او تلك لخدمة اهدافها ومصالحها ، فهذا امر معروف .

من جانب آخر فانه من المهم ادراك ان الامم المتحدة كمنظمة ، وما تسعى للقيام به على المستوى الدولي ، تظل تمثل مرحلة هامة من مراحل تطور التنظيم الدولي ، الذي بدأ منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 ، أي قبل 370 عاما ، ومن ثم فانها مرحلة تنضج لتتطور الى ما هو اكثر ملاءمة ، أو اكثر تجاوبا مع المصالح المشتركة للمجتمع الدولي ، وقد استطاعت الامم المتحدة ، على مدى السبعين عاما الماضية تحقيق عدة ايجابيات ، ليس بشكل بارز وصارخ مثلا ، ولكن بمنطق التطور التراكمي ، الذي يسفر عن نتائجه ويعطي آثاره ببطء وعلى مدى زمني اطول . صحيح ان الامم المتحدة فشلت في حل القضية الفلسطينية حتى الآن ، وصحيح انها هى التي سوغت انشاء اسرائيل عبر قرار تقسيم فلسطين عام 1947 ، ولكن الصحيح هو ان الامم المتحدة اعطت دفعة كبيرة للقانون الدولي الانساني ، ولحق التدخل ، مما يقلص المفهوم التقليدي للسيادة بشكل او بآخر ، واستطاعت ان تعطي دفعة للمحكمة الجنائية الدولية ، وللولاية القانونية لها ، برغم عدم اعتراف امريكا بها ، كما استطاعت ان تجعل من حقوق الانسان قضية دولية بشكل أو بآخر . غير ان تلك الايجابيات وغيرها تتلاشى امام عيون فلسطيني يرى منزله مغتصبا من جانب مستوطنين اسرائيليين جاءوا من روسيا أو بولندا ولا علاقة لهم بأرض فلسطين ولا باليهودية احيانا ، كما انها تتضاءل امام لاجئين من سوريا ام من الروهينجا ، وأمام مجاعات اليمن وافريقيا ، وهذا كله امر طبيعي بسبب الفجوة الكبيرة بين واقع الامم المتحدة كمنظمة تعمل وفق قواعد متفق عليها ، وبين التصورات الرائجة حولها على المستوى الشعبي ، وهو ما يؤدي عادة الى تدهور صورة المنظمة الدولية على مستوى الشارع ، وهى مسألة مشتركة تمتد الى مختلف المنظمات الاقليمية ، بما في ذلك الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الاسلامي والأسيان والاتحاد الافريقي ،والاتحاد الاوروبي ، بدرجات متفاوتة بالطبع . غير ان التطور لا يتوقف ، ويسير دوما نحو الافضل ، وهو ما يصب لصالح الاجيال القادمة .

*ثانيا: ان المهرجان الدولي الكبير في الجمعية العامة للامم المتحدة ، والذي يمتد الى نحو ثلاثة اشهر تقريبا في كل عام ، وبغض النظر عن خطب وبيانات الدول الاعضاء ، وتركيزها على مواقفها ورؤاها ، فانه يمثل محاولة جماعية من اجل بلورة خطوط عامة تعبر عن الضمير العالمي ، فيما يتعلق بالقضايا الدولية المختلفة ، صحيح لا تمثل هذه الخطوط سياسة ملزمة ، أو يمكن فرضها بشكل جبري أو قهري على طرف ما ، ولكن الصحيح انها تعبر عن رؤية العالم لما هو افضل أو لما هو مأمول في هذا الجانب أو ذاك ، دون اغراق ودون مبالغة في التمنيات ، لأن هذا غير ممكن اصلا . غير ان هذا التوجه أو الرؤية الجماعية التي تعبر عن الضمير العالمي ، أو عن الآمال والتطلعات للمجتمع الدولي ، حيال هذه القضية أو تلك ، تكتسب في الواقع قوة وثقلا ادبيا ، بحكم وقوف معظم مجتمع الدول خلفها ، وهو أمر لا تسعى ولا ترحب الكثير من الدول بمعارضته بشكل فج أو صارخ ، أو الاصطدام المباشر معه ، حتى لو كانت تعارضه تماما . وتظل هذه الرؤية الجماعية الدولية مفيدة ، اذا تمكنت الاطراف المعنية الاستفادة السياسية منها لتحقيق قدر من مصالحها . وقد رأينا جميعنا موقف الجمعية العامة للامم المتحدة المعارض لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة موحدة لاسرائيل ، ولكن امريكا مضت في خطوتها ، واعلنت نقل سفارتها في اسرائيل من تل ابيب الى القدس اعتمادا على قوتها باعتبارها الدولة العظمى في عالم اليوم ، كما ان اسرائيل لا تعبأ كثيرا بقرارات الجمعية العامة وحتى مجلس الامن ، اعتمادا على الحماية الامريكية لها ، والتي وصلت الى حد انسحاب واشنطن من كل من اليونسكو والمجلس الدولي لحقوق الانسان بسبب مواقفهما من اسرائيل كما اكد الرئيس الامريكي . ولكن ذلك لا يعني انه لا قيمة لقرارات وتوصيات الجمعية العامة للامم المتحدة كما سبقت الاشارة .

*ثالثا: ان اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة تشكل في الواقع ما اصطلح على تسميته بدبلوماسية الامم المتحدة ، والمقصود بها استخدام اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة ، والتي تتواجد فيها كل الدول الاعضاء ، لعقد سلسلة كبيرة من الاجتماعات ، الثنائية ومتعددة الاطراف ، ليس فقط لتبادل وجهات النظر حول قضية ، أو تطور ما يهم الدول المعنية ، ولكن لتوقيع اتفاقات أو بروتوكولات احيانا ، هذا فضلا عن ان اجتماعات الجمعية العامة تتيح الفرصة لاطراف عدة لبدء اتصالات ، أو بدء حوار ، أو ابداء اهتمام حيال طرف أو آخر ، وأحيانا عقد لقاءات ، كان من الصعب عقدها خارج هذا المهرجان الذي يشكل غطاءا مهما للكثير من الاطراف للعمل والتحرك لمتابعة مصالحها واهتماماتها ، بعيدا عن اساليب الرصد والتطفل من جانب الآخرين ، أو للتغلب احيانا على صعوبات بروتوكولية معينة . ولعل هذا ما يفسر العدد الكبير من اللقاءات بين الوفود المختلفة ، وهى بالتأكيد ليست من قبيل العلاقات العامة ، فوقت الوفود يكون عادة مشحونا بالمواعيد والمقابلات والاجتماعات المختلفة .

من جانب آخر فانه في ضوء حقيقة ان الامم المتحدة ، أو غيرها من التنظيمات الاقليمية والدولية ، تعمل وفق قواعد محددة تحددها مواثيقها ، فان فشلها وعدم تحقيقها لأهدافها ، يعود في الواقع وفي المقام الاول للدول الاعضاء فيها ، وتحديدا الدول ذات التأثير الاكبر في عملها ، والتي تملك وسائل تأثير عديدة ، مباشرة وغير مباشرة ، وفي هذا الاطار فان نظرة سريعة على الخطب والبيانات التي القتها العديد من الدول امام اجتماعات الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للامم المتحدة المنعقدة حاليا ، تشير بوضوح الى الفجوة الكبيرة ، والى التناقض الصارخ بين اتفاق الجميع تقريبا على اهمية وضرورة قيام الامم المتحدة بدورها ، والالتزام بقراراتها ، وبين المواقف العملية لتلك الدول على الارض وخارج مقر الاجتماعات ، خاصة وان الالتزام بالقرارات وتنفيذها ليس ممارسة شفوية ، أو مجرد اعلان عن رغبة ما . على اية حال فانه من المعروف ان الدول التي تسهم في عرقلة عمل المنظمة الدولية ، بأي شكل من الاشكال ، هى المستفيدة عادة من جعل المنظمة بمثابة حائط صد ، يتلقي اللوم والانتقادات من جانب المواطنين في دولها وعلى امتداد العالم ، لفشل المنظمة ، في حين انها تختبئ وراء ذلك ، برغم مسؤوليتها العملية والواضحة في هذا الفشل ، وهذه المسألة تكاد تكون قاسما مشتركا بين مختلف المنظمات الاقليمية والدولية ، ولذا لا تلوموا المنظمة ، ولكن وجهوا الانتقادات للدول التي تتسبب في عرقلتها ، وحتى يتضح ذلك بشكل كاف ، سيمر بالتأكيد وقت آخر ، تصب فيه اللعنات على تلك المنظمات المسكينة في مواجهة جبروت الدول الاقوى تأثيرا ، و التي تعمل لتحقيق مصالحها اولا ، ولو على حساب الجميع !! .