الملف السياسي

«مطبخ» القرارات الدولية .. أم «مجالس» بلا هدف ؟

01 أكتوبر 2018
01 أكتوبر 2018

هاني عسل -

طائرات تمضي وتعود.أفراد أمن في كل مكان. وفود رفيعة المستوى من كل أنحاء العالم. زعماء يفدون، وآخرون يعتذرون عن الحضور. منصات وكلمات واجتماعات مغلقة. قادة يتحدثون، وإعلاميون يراقبون الهمسات واللمسات والمصافحات ونظرات الأعين ويسجلونها، ويصنعون منها المانشيتات والقصص الرئيسية في قنواتهم الإخبارية.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستعرض إنجازاته في عامين والتي لا تقارن بأي رئيس أمريكي سابق، فيضحك الحاضرون، وتصبح هذه المزحة أهم حدث في العالم لمدة ثلاثة أيام على الأقل!يسب ترامب ويلعن العولمة و«سيئاتها»، فيرد عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقصيدة غزل في مثالب القيم العالمية، وقصيدة هجاء السياسات الوطنية و«الانكفائية». الرئيس الإيراني حسن روحاني ينتقد أمريكا، لأنها تخلت عن الاتفاق النووي، وتحاول «خنق» إيران اقتصاديا .

هذا هو جانب مما دار ويدور هذه الأيام من أحداث في الدورة الثالثة والسبعين لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بمشاركة 193 دولة. ولكن، هل يمكن اعتبار الجمعية العامة للأمم المتحدة هي المنبر الحقيقي لدول العالم؟ هل الجمعية العامة هي «المطبخ» الرئيسي بالفعل لعملية صناعة القرارات الدولية؟ هل هي الفرصة الحقيقية لتداول الآراء وعرض القضايا من أكثر من وجهة نظر واحدة أو «فوقية»، في إطار نظام «الفيتو» الذي يفسد عمل مجلس الأمن الدولي ؟ أم أن الجمعية العامة ليست سوى مناسبة بروتوكولية سنوية يلتقي فيها كل قادة العالم، ليتحدث كل واحد منهم في جهة بعيدة عن الآخر؟ هل هي مجرد «مكلمة»، أو ساحة لإلقاء الخطابات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، في ظل انعدام السلطة التنفيذية للجمعية العامة؟ هل هي مجرد رحلة للنزهة ولزيارة معالم مدينة نيويورك الشهيرة بالنسبة لبعض القادة؟ لماذا يوصف دور الجمعية العامة دائما بأنه دور رمزي غير فاعل؟ ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذا الحشد الهائل من قادة العالم في مختلف الاجتماعات السنوية ؟

تعقد الجمعية اجتماعاتها عادة في الفترة من سبتمبر إلى ديسمبر من كل عام، وتكون اجتماعات سبتمبر هي المنصة الرئيسية التي يحضرها قادة وزعماء الدول المختلفة، ولكن مدة عمل الجمعية بشكل عام تستمر حتى نهاية شهر أغسطس من العام التالي، ويمكن أن تنعقد مجددا خلال تلك الفترة إذا دعت الضرورة لذلك.

وبصورة أكثر دقة، نعود إلى النظر في اختصاصات الجمعية وفقا لما ورد في ميثاق الأمم المتحدة : فالجمعية العامة، وعلى الرغم من أنها لا تتخذ فعليا أي قرارات ملزمة قانونا، ولكن تصدر مجرد توصيات لها تأثير معنوي يعتد بها، فإنها، ووفقا لما جاء في الميثاق، مختصة بما يلي :

- بحث ومناقشة ومراجعة ميزانية الأمم المتحدة واعتمادها وتحديد حصص مساهمات كل دولة من الدول الأعضاء في هذه الميزانية.

- انتخاب الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي وأعضاء باقي مجالس الأمم المتحدة وهيئاتها، كما تعتمد تعيين الأمين العام بناءً على توصية من مجلس الأمن.

- مناقشة التقارير الواردة من مجلس الأمن وسائر هيئات الأمم المتحدة على مدار العام.

- مناقشة الدراسات والتقارير التي تتناول القضايا الرئيسية من وجهات نظر أو زوايا متخصصة ومتعمقة، مثل قضايا المناخ والصحة ومكافحة المخدرات والتصحر والجوع والفقر وسوء التغذية والرعاية الصحية، وتصدر توصياتها بموجب هذه التقارير والدراسات لتحفيز الدول على التعاون من أجل حل هذه المشكلات.

- مناقشة المبادئ العامة التي تحكم عملية التعاون في حفظ السلم والأمن الدوليين، بما في ذلك المبادئ المتعلقة بنزع السلاح.

- مناقشة قضايا السلم والأمن الدوليين، وتقديم التوصيات الضرورية في هذا الإطار، بشرط ألا يكون هذا النزاع أو الصراع أو الحالة قيد المناقشة في مجلس الأمن.

- مناقشة أي قضية تدخل في نطاق الميثاق أو تتصل بسلطات أيّ هيئة من هيئات الأمم المتحدة ووظائفها.

وتنقسم الجمعية العامة إلى سبع لجان رئيسية لتمكينها من تنفيذ مهامها هي : لجنة نزع السلاح والأمن، واللجنة الاقتصادية والمالية، ولجنة الشؤون الاجتماعية والإنسانية والثقافية، واللجنة السياسية، ولجنة الشؤون الإدارية والميزانية، ولجنة الشؤون القانونية، أما اللجنة السابعة فهي لجنة عامة تضم رئيس الدورة الحالية للجمعية العامة و21 نائباً له، بجانب رؤساء اللجان الست الرئيسية.

والجدل حول إلزامية قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة قديم الأزل، وما زال قائما حتى يومنا هذا، وإن كان هذا الجدل لم يغير من الوضع شيئا. ولكن المزية الرئيسية في الجمعية العامة أنها أكثر «ديمقراطية» من مجلس الأمن، إذ تتخذ قراراتها عادة بأغلبية ثلثي الأعضاء، في القضايا الجوهرية، مثل الميزانية وقرارات حفظ السلم والأمن وانتخاب أعضاء مجلس الأمن، ولا يوجد فيها حق اعتراض «الفيتو»، ولكن بعض القرارات الأخرى تصدر بالأغلبية البسيطة، كما يحدث في كثير من الأحيان أن تحرص الجمعية العامة على إصدار قرارات من خلال توافق الآراء بدلا من التصويت الذي يؤدي لانقسامات.

ومع ذلك، ظهرت محاولات بين الحين والآخر لزيادة تأثير قرارات وأعمال الجمعية العامة، مثل مؤتمر القمة العالمي الذي عقد عام 2005 وانتهى بإصدار وثيقة ختامية تدعو إلى إعلان الجمعية العامة «الهيئة الرئيسية في الأمم المتحدة لمناقشة ورسم السياسات وتمثيل الأعضاء».

وتعد التوصيات الصادرة عن الجمعية العامة مثل الإعلام التاريخي للألفية عام 2000، وإعلان مجموعة أهداف التنمية المستدامة الـ17 عام 2015، من بين أبرز القرارات الصادرة عن الجمعية العامة وحظيت بصفة شبه إلزامية على الدول الأعضاء، وإن انتفت صفة الإلزام القانوني منها، إذ تعمل كل الدول الأعضاء في إطارها، أو وفقا لما جاء فيها، ولكن دون أن يكون ذلك ملزما من الناحية القانونية بها، وعدم تنفيذها لا يعرض الدولة المخالفة للعقوبة أو التحذير.

ولكن، طبقاً لقرار مجلس الاتحاد من أجل السلم الذي وافقت عليه الجمعية العامة في عام 1950، يمكن للجمعية العامة اتخاذ إجراء إذا فشل مجلس الأمن بسبب عدم إجماع أعضائه الدائمين في اتخاذ إجراء في حالة وجود تهديد للسلم الدولي، أو إخلال بالسلم، أو ارتكاب أعمال اعتداء، كما يمكنها وقف ممارسة حقوق العضوية لمن أصدر مجلس الأمن قرارا بمنعهم، كما يمكن أن تستبعد من عضوية الأمم المتحدة أي عضو ينتهك مبادئ الميثاق، وذلك بناء على توصية من مجلس الأمن.

وهناك كثير من المواقف السياسية التي تم التعبير عنها في أوقات متباينة عن فكرة زيادة صلاحيات الجمعية العامة، فقد طالبت السلطة الوطنية الفلسطينية قبل سنوات بإعطاء سلطات للجمعية العامة بعد أن تجاوز مجلس الأمن صلاحياته، وتحول إلى أداة في يدي القوى الكبرى. وبالتزامن مع انعقاد الدورة الحالية الـ73 للجمعية العامة، وفي ظل غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الاجتماعات، أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن عدم جواز نقل صلاحيات مجلس الأمن الدولي إلى الجمعية العامة.

وجاء في بيان للخارجية الروسية : «نؤيد المبادرات الواقعية لتحسين عمل الجمعية العامة، ولكن التغييرات يجب أن تكون عقلانية، والمحاولات لتوسيع صلاحيات الجمعية العامة من خلال إعادة توزيع الصلاحيات للهيئات الأخرى، بما فيها مجلس الأمن الدولي غير مقبولة». وتابعت: أن «هدف إصلاح مجلس الأمن الدولي هو توسيع التمثيل فيه من دون الأضرار بفاعليته»، مشيرة إلى أن البحث عن النموذج المثالي لا يجب أن يتضمن إعادة النظر في امتيازات الدول دائمة العضوية، بما فيها حق الفيتو».

والموقف الروسي هو ذات الموقف الذي أعلن عنه الخمسة الكبار : الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين في الأمم المتحدة وفي مناسبات أخرى، بما يتضح أنه لا توجد أي مساحة لتغيير نظام التصويت في مجلس الأمن، أو إعطاء صلاحيات قوية للجمعية العامة على حساب مجلس الأمن، لتعارض ذلك مع مصالح هذه الدول المسؤولة بشكل رئيسي عن تمويل المنظمة الدولية، والتي نشأت الأمم المتحدة أساسا، من الناحية التاريخية، لخدمة مصالحها، وحتى في المرات القليلة التي حاولت فيها الأمم المتحدة أو أي من منظماتها الخروج عن «طوع» الكبار، كانت العاقبة أليمة، ولنا في اليونيسكو ومجلس حقوق الإنسان والأونروا، خير أمثلة على ذلك، بل إن الدول الكبرى تستطيع تجاهل مجلس الأمن نفسه إذا أرادت مثلما حدث في حرب العراق.

ومع ذلك، تبقى الجمعية العامة منبرا لقادة العالم، يقولون فيه ما يشاءون، ويتبادلون الآراء، ويتكتلون من خلاله، ويضغطون «معنويا» على الدول الكبرى الأكثر تأثيرا، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا!

كلمة أخيرة : لم يكن غياب بوتين وشي جين بينج عن الجمعية العامة، وتبادل ترامب النكات مع أعضاء الجمعية العامة، سوى ملخص بليغ لما أراد هذا الموضوع أن يقوله!