أفكار وآراء

عندما نراهن على مكاسب محتملة

30 سبتمبر 2018
30 سبتمبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

لا أبحث عن جدل سفسطائي عندما أقول: إننا في كل مشاريعنا الحياتية نبحث عن مكاسب، ونحرص خلال بحثنا هذا على التقليل من الخسائر، ولا ندخل؛ حسب معرفتنا؛ في رهانات نجزم أنها خاسرة في النهاية، وإلا وسمنا بـ«العته» وهذا ما لا يرضاه العاقل منا، خاصة اليوم في ظل تسيد المعرفة المجردة من العواطف، والتجاذبات الخاصة؛ لأنه في النهاية؛ كما هي الحقيقة دائما؛ أننا من سيدفع تكاليف أي خطأ أو خسارة قد تعترض طريقنا ونحن في زحمة انشغالاتنا في التفكير والانتقال من مشروع إلى آخر.

وفي شمولية هذه الصورة ليس هناك ما يعيب، فالإنسان وجد ليعمر الحياة، وهذه مسؤوليته الإنسانية قبل كل شيء، يبقى العيب فقط، عندما نجازف في الدخول، وتكون الطريق مظلمة دامسة، وهذا لا يكون في ظل وجود مفهوم يعتمد عليه اعتمادا كليا، يسمى بـ«دراسة جدوى المشروع» هنا أناقش بعضا من جوانب هذه الصورة، وأقف عند بعض المحطات المتعلقة بذات الفهم.

قرأت في شهر أغسطس الماضي مقالا جميلا حمل عنوان «لماذا يخسر التاجر المجتهد؟ وهل ما ورد في المقال يفيدك كصاحب عمل؟ اقرأ واستفد» لكاتبه (صالح العبري) توارد إلي المقال عبر مجموعات الـ«واتس أب» يحكي فيه قصة مقاول جاء لاستشارته بعد أن تراكمت عليه الديون، ولم يستطع أن يكمل مشروعات البناء لمنازل عديدة، فكانت نصيحة الكاتب؛ حسب ما وثقها في طرحه الذي قرأته؛ أنه على المقاول أن يصفي أعماله الحالية، ويحاول التفاوض مع أصحاب المنازل التي لم يتم إكمال بنائها على كيفية إرجاع حقوقهم المالية، وعدم المجازفة في الاستمرار على النهج الحالي، فهو نهج خاسر، وسيؤدي إلى الكثير من الخسائر، ولن يوقفها في حالة البحث عن بناء منزل آخر جديد مقابل استغلال دفعات المنزل الجديد في إكمال بناء المنازل القديمة المتوقف العمل فيها بسبب هذه الخسائر المتراكمة، وقد لخص الكاتب فكرة المشكلة بأكملها بعبارة: «طريقة الهروب للأمام وترحيل المشكلة بمشكلة أكبر؟!» مقال يتسم بالمعالجة الموضوعية للمشكلة، وقد استفدت منه كثيرا.

هذه الحالة التي يتحدث عنها الكاتب، يبدو أنها ليست محصورة في حالة هذا المقاول وحده فقط، وإنما هي بصور متكررة على امتداد النشاط الإنساني بأكمله، وهي حالة معايشة بصورة مستمرة عبر الزمان، وليست موقوتة بزمن محدد فقط، أو بمحدد جغرافي فقط، وإنما هي حالة إنسانية نعيشها كأفراد، وكمؤسسات، وكدول كذلك، وعلى أساس استمرارها، واستهانة الناس بها، يظل -في المقابل- تراكم الخسائر مستمر، على كل مستويات الفئات السالفة الذكر، فكم منا على امتداد مسيرة حياته دخل رهانات خاسرة، ويعلم خسارتها منذ اللحظة الأولى، ولكن يقول في نفسه، سأغامر، أليست الحياة مغامرة أيضا؟ وسأجرب، وهي نفس الحالة التي نراها بصورة يومية عندما نرى أولئك الذين يجازفون بقطع الأودية، مع أنهم يدركون أن احتمالية فشلهم كبيرة، ومع ذلك يستمرون في مجازفتهم لقطع الوادي، وبالتالي تكون النتيجة غرق السيارة، وربما قد تسعفهم المساعدات التي يضحي بها أناس آخرون لإنقاذهم، وربما حتى الآخرين من حولهم لن يستطيعوا أن ينقذوهم لعمق المخاطرة وشدتها وقسوتها أيضا، وما ينطبق على الحالات الفردية الشخصية في هذا المثال أو غيره، ينطبق على مستوى الحكومات عندما تجازف في الدخول في مشروعات كبيرة رغبة في الحصول على مكاسب محتملة، دون دراسة موضوعية كاملة، مما تستنزف الكثير من الأموال دون تحقيق الأهداف المحددة سلفا.

هناك مقولة رائعة؛ قرأتها؛ تنسب إلى (دانييل كانمان) وهو الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية؛ وهي «استرداد التكاليف الغارقة» وذلك من خلال التفكير في التكاليف القادمة لأي مشروع، وقد عايشت شخصيا هذه الحالة في هذا الصيف عندما عزمت السفر مع بعض من أفراد أسرتي إلى عدد من دول العالم، فقد ذهبت إلى أحد مكاتب السفر والسياحة لتنظيم هذه الرحلة، بدلا من المجازفة بالسفر لوحدي إلى بلدان لا أعراف عنها شيئا، خلاصة هذه التجربة أنني لم أسافر حسب ما خطط لي من قبل المكتب، فقد ألغى المكتب سفري قبل خمس ساعات من موعد الرحلة، لأسباب واهية لم أقتنع بها، ولا تزال مبالغ هذه الرحلة على ذمة صاحب المكتب حتى هذه اللحظة، على الرغم من أنني دفعت تكاليف الرحلة كاملة قبل ستة أشهر من موعد الرحلة، وعند وقوفي على لب المشكلة في هذا المكتب، تبين لي أن المكتب يجهز رحلات حالية من مبالغ مدفوعة لرحلات قادمة، على أمل أن يأتي مسافرون آخرون ليحجزوا لرحلات أخرى قادمة تتيح له فرصة سفر رحلات حاضرة، كما هو حالة المقاول الذي تحدث عنه الأخ (صالح العبري) كما سبقت الإشارة، وبالتالي حدث هذه الفشل وهو مصداقا لمقولة (دانييل كانمان) «استرداد التكاليف الغارقة» فالتكاليف الغارقة لا يمكن أن تستردها، وبالتالي الاستمرار في ذات الاتجاه عبر «طريقة الهروب للأمام وترحيل المشكلة بمشكلة أكبر؟!» في حياتنا الخاصة كثيرا ما نغالط مفهوم «التكاليف الغارقة» لأننا (نراهن على مكاسب محتملة)، وذلك ناتج عن سوء التقدير، أو سوء الفهم لذات المشاريع التي نقدم عليها، وسوء الفهم هذا ناتج بدوره عن قلة الخبرة والمعرفة، سواء بآليات السوق، إن كان مشروعا تجاريا، أو بمجموعة التداعيات المتعلقة بذات المشروع، والخطأ الأكبر أن نستمر في ذات الاتجاه، مع وقوعنا في عدد من المواقف الخاسرة، حيث تخيم على تفكيرنا في تلك اللحظات الحاسمة من عمر القرار الصورة الاحتفالية للمكاسب، ولذلك نرى ونسمع عن تجارب كثير من الناس المتقاعدين -على سبيل المثال- والذين دخلوا في مشروعات تجارية، وخاصة أولئك الذين ليست لهم أية دراية بالمشروعات التجارية، وإنما هم واقعون تحت تأثير نصائح إما أصدقائهم، أو مستندين على بعض تجارب من سبقهم، وبالتالي يدفعون بكل مستحقات التقاعد التي تجمعت طوال سنوات خدمتهم في الوظيفة، في هذا المشروع، وغالبا ما تفشل مثل هذه المشروعات التي ابتدأ أصحابها بهذا الفهم المغالط في حقيقته على الواقع، والخوف هنا أكثر من استمرار صاحب هذا المشروع الذي دخل السوق عن غير تجربة ولا خبرة، وإنما عبر وسيط ثالث كما ذكر أعلاه، وذلك من خلال الشروع في الاستدانة من البنوك وتعميق المشكلة أكثر وأكثر، فأحد الأصدقاء خرج إلى التقاعد، فما كان منه إلا أن فتح مدرسة خاصة للتعليم (روضة وأساسي) بينما كان الوظيفة التي يمارسها طوال سنوات العمل ليس لها علاقة بالتعليم، لم يعمر المشروع طويلا، سنوات قليلة، فإذا به يبيع المدرسة لمستثمر آخر، وجيد أنه لم يستمر ليراكم مشكلته تحت مفهوم « التكاليف الغارقة»، وإلا سيقع في خطأ أفدح، كما وقع آخرون كثيرون لسوء تقديرهم للأمور، وهذه الصور ليست مقتصرة على المستوى الفردي، فما نرى اليوم من حولنا على المستوى العالمي الكثير من الأمثلة، حيث تقوم الدول، أو المجموعات الدولية في الدخول في مشروعات خاسرة، سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وثقافية، ومع مرور الزمن تبدأ خسائرها معلنة على صفحة العالم كله، ومع ذلك تستمرئ هذه الدول فعل استمرارها في هذه المشروعات الخاسرة، مع علمها بذلك، ويدفع آخرون مدفوعون في هذه المشروعات بغير إرادتهم الأثمان الباهظة، ومع ذلك يقف المجتمع الدولي كله عاجزا على حلحلة مجموعة العقد المتشابكة، انتظار لـ«استرداد التكاليف الغارقة».

يقول دكتور جيم إيفيريت، المختص في علم النفس الاجتماعي والباحث بجامعة ليدن في شأن «التكاليف الغارقة»: «كلنا قد نتأثر بهذه الأشكال من الانحيازات المعرفية، ولكننا قد نتفاداها إذا نظرنا للأمور بشكل موضوعي وشامل وأمعنا النظر في البدائل». – حسب مصدر موقع الـ(بي بي سي عربي) – وهذه مرحلة متقدمة في التفكير، فليس يسيرا أن يصل أحدنا إلى هذا التفكير الموضوعي لحل مشكلته، خاصة وهو واقع تحت تأثير الخسارة، أو عدم القدرة على الخروج من مأزق المشكلة، فكما يقال: «المرء في المحنة عي» أي تنقصه الحيلة والتفكير، ولذا فعليه أن يستمع ويصغي؛ وخاصة؛ للمخلصين من حوله، ويقينا؛ لن يعدم المرء من أحد هؤلاء المخلصين في أوقات الشدة.