assem
assem
أعمدة

نوافذ : حتى لا يموت قاسم السعيدي مرة أخرى

29 سبتمبر 2018
29 سبتمبر 2018

يكتبها : عاصم الشيدي

مات قاسم بن خلف السعيدي، ومات معه تسعة من أفراد أسرته: زوجته وأبناؤه وبناته، أتت عليهم لحظة واحدة وهم في هدأة النوم، في هدأة حلم بيوم جديد تشرق فيه الشمس ويسير الناس إلى حيث قدر الله لهم: رجل يضرب في الأرض بحثا عن رزقه، وأم ترعى أسرتها الكبيرة وطالب وطالبة إلى المدرسة بصحبة رفاق الحارة وأطفال صغار يملؤون البيت حياة رغم بكائهم وصراخهم.. لكن قاسم لم يستيقظ ولن يستيقظ في هذه الحياة مرة أخرى لا هو ولا من رافقه رحلة الرحيل إلى العالم الآخر. تسلل الدخان إلى عمق أرواحهم ثم دخلوا في هدأة الموت ووحشته وتركوا خلفهم فجيعة كبيرة وألما يعتصر الجميع.. وماتت الحياة في البيت إلى الأبد.

مات قاسم بن خلف السعيدي وجاء المعزون من كل حدب وصوب، يحملون أحزان الفجيعة، ويحملون ذكرياتهم مع الأب ومع أسرته، يتذكرونه إماما في الصلاة ومؤذنا وخطيبا ومحاضرا، يتذكرونه صديقا، يتذكرونه مواطنا فقدته عُمان وفجعت به وكأنه وأبناءه ينتمون لكل بيت عماني.. ولكن ماذا بعد كل هذه الفجيعة وكل هذا الألم؟!!

سيمضي الحزن لا محالة وإن بقيت الذكريات المرة، وإن بقي مشهد بيته المحترق ناقوسا يؤجج الذكرى المؤلمة في قلوب أبنائه الثلاثة الذين حفظهم الله حين كان الموت يتخبط وسط البيت. لكن السؤال الذي علينا أن نبحث وراء إجابته بشكل جدي يتمثل في أسباب وفاة قاسم وعائلته، وأسباب وفاة آخرين في عمان خلال السنوات الماضية نتيجة احتراق بيوتهم. واحتراق بيوت أخرى قدر الله ألا تتسبب نيرانها في وفيات، ولا نسمع عنها كما سمعنا عن هذا البيت.

أغلب حالات احتراق البيوت في عُمان اليوم ناتجة عن استخدام مواد كهربائية رديئة جدا، يغرينا ثمنها الرخيص ولكنها تحمل في داخلها موتا مؤجلا.

ورغم أن المواطن شريك في دخول هذه المواد الكهربائية إلى البيوت إلا أن الجهات الحكومية المعنية بالسماح بدخولها الأسواق أو عبر الحدود هي من يتحمل الوزر الأول والأكبر، لأنها سمحت بها ولأنها لم تضع مواصفات ومقاييس تطبق على مثل هذه المواد وتتشدد في حظر ما لا يتفق معها.

في كل البلدان هناك مواصفات للمواد الكهربائية، كما لغيرها من المواد، لا يمكن التساهل إزاءها، لأن التساهل يعني الموت بالضرورة، وهذه المواصفات لا يحددها المواطن المغلوب على أمره والباحث دوما عن المواد الأقل سعرا في ظل فحش ارتفاع الأسعار. لكن هذه المواد التي يباع بعضها هنا في الأسواق العمانية أو تأتي عبر الحدود من أسواق دول الجوار لا تحمل، في الغالب، مواصفات الأمان التي تحتاجها المواد الكهربائية في الغالب، وبعضها خصص للتصدير ولا يباع في أسواق تلك الدول لعدم مطابقته للمواصفات والمعايير المعمول بها هناك. ولا يبدو أن وزارة التجارة والصناعة ومديرية المواصفات والمقاييس وهيئة حماية المستهلك قد وضعت مثل تلك المواصفات الصارمة للسوق العماني التي يكون تجاوزها جرما واضحا يستحق المساءلة القانونية. يعتقد المستهلك، البسيط، أن السماح لهذه المواد بدخول السلطنة دليل على أنها متوافقة مع المواصفات المعتمدة ولذلك يشتريها بشيء من الاطمئنان. والسوق المفتوحة لا تعني أن نسمح لكل شيء بدخول السلطنة، ولا نسمح لأن يتسلل الموت خفيفا وسط تساهلنا أمام أسواق تملأ البلاد بالبضائع المغشوشة.. أو نسمح للشركات التي تتعمد غشنا، أو تلك التي تبيعنا الموت مغلفا على هيئة مصباح نشتريه لينير لنا الليالي المظلمة فإذا هو يتخطفنا بهدوء.

حتى لا يموت قاسم السعيدي وعائلته مرة أخرى على الجهات المعنية أن تقوم بدورها سواء في توعية الناس أو في الضرب بيد من حديد على التجار والشركات التي ملأت الأسواق بكل بضاعة فاسدة ومغشوشة، وبكل بضاعة تحمل وسطها مشروع موت سريع أو مؤجل.. وعلى البلديات أن لا تمنح البيوت الحديثة شهادة إتمام البناء إلا إذا كانت مزودة بأجهزة الإنذار من الحريق وأجهزة كشف تسرب الغاز.

حفظ الله الجميع.