أفكار وآراء

دستور العراق بين النص والتطبيق

29 سبتمبر 2018
29 سبتمبر 2018

د.عبد العاطى محمد -

في عام 2005 وافق العراقيون في استفتاء عام على دستور جديد نقل النظام السياسي نقلة نوعية كبرى منذ عام 1924، ودخل الدستور حيز التطبيق في عام 2006 واضعا معالم الحكم الاتحادي الفيدرالي للعراق. ولكن على مدى 12 عاما من الممارسة لا يزال تطبيق نصوص هذا الدستور موضع جدل مما نتج عنه مظاهر مختلفة من عدم الاستقرار السياسي.

وفي مثل هذه الحالات التي تتعلق ببناء نظام سياسي يلائم مجتمعا تعدديا واختيار صيغة معينة من الدساتير لتحقيق هذا الهدف، غالبا ما تثور التساؤلات عند تعثر التجربة عما إذا كانت المشكلة هي في نص الدستور ذاته، أم في عدم تطبيقه من جانب القوى السياسية، أم في وجود ظروف خارجية تعوق هذا التطبيق.

لقد تم وضع هذا الدستور باختيار الحل الفيدرالي استنادا الى وجهة نظر من وضعه إلى أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، ولكي تنتقل البلاد إلى نظام الحكم الديمقراطى الليبرالي، فإن عليها أن تعمل من الناحية السياسية وفق هذا الحل لأنه أحد الآليات التي انتهى إليها الفكر البشرى الحديث في سعيه إلى توفير وسائل التعبير عن الحريات السياسية وتحقيق الاستقرار السياسي في هذا النمط من المجتمعات، أي المجتمعات المركبة أو متعددة الأعراق واللغات والأديان. ويقضي هذا الحل الفيدرالي ببساطة بوجود مستويين للسلطة والحكم تتوزع بينهما الاختصاصات بحيث لا يمكن لأحدهما التعدي على اختصاصات الأخرى، ولذلك نص دستور 2005 على وجود السلطات الاتحادية التشريعية والتنفيذية والقضائية وسلطات مشابهة للأقاليم، ونظم العلاقة بينهما بشكل دقيق. ولم يكن اختيار الفيدرالية غطاء للتقسيم في حقيقة الأمر، لأنها تحافظ على وحدة العراق، وتؤكد على وجود سلطات اتحادية لها القرار الأول في كل شيء وتسمح للأقاليم بأن تدير نفسها بما يناسب أوضاعها. والتجارب التاريخية في مجتمعات مشابهة أكدت مرارا صحة هذا الاختيار.

ولا يقف الحل الفيدرالي عند مسألة توزيع السلطات بين المركز والأقاليم، وإنما مثل بقية الآليات الليبرالية المتعلقة بالمجتمعات التعددية، يعنى بتفصيل وتشريع كل ما يتعلق بإقامة حياة ديمقراطية سليمة تنتصر للحريات السياسية وتهدف إلى الاستقرار. ومن يراجع دستور 2005 يستطيع أن يلمس بوضوح تجسيده لهذا أو ذاك، بما قدم العراق وقت صدوره للعالم على أنه نموذج لنظم الحكم الديمقراطية بحق. علما بأن من أقره جمعية تأسيسية منتخبة وجرت الموافقة عليه في استفتاء عام في 15 أكتوبر 2005، ثم دخل حيز التنفيذ في العام التالي. وللدلالة – على سبيل المثال لا الحصر – على ما ضمته دفتا هذا الدستور من مواد تعكس الرغبة في بناء نظام سياسي ديمقراطي ليبرالي، يكفي الإشارة في إيجاز إلى تأكيده على أن العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو العقيدة أو الرأي أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وكذلك يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو المذهب أو التكفير أو التطهر العرقي أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى كان ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق. وشدد على تكافؤ الفرص بكونه حق مكفول لجميع العراقيين وتكفل الدولة الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك. وقد حظر الدستور تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة، وأكد التزام الدولة بمحاربة الإرهاب بجميع أشكاله. وفي مجال الثروة الوطنية أكد الدستور على أن النفط والغاز هما ملك لكل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات، وتقوم الحكومة الاتحادية بإدارة كل منهما مع حكومات الأقاليم والمحافظات وتوزع واردات كل منهما بشكل منصف يناسب التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد. وعلى مستوى علاقة المركز بالأقاليم أعطى دستور 2005 الحق لكل إقليم في وضع دستور له يحدد هيكل السلطات فيه على أن لا يتعارض مع هذا الدستور، ولسلطات الأقاليم ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقا لأحكام هذا الدستور باستثناء ما ورد بخصوص اختصاصات السلطات الاتحادية، بينما تختص هذه السلطات بالسياسة الخارجية والعلاقات الدبلوماسية ووضع السياسة الأمنية وإنشاء قوات مسلحة وإدارتها ورسم السياسات المالية والجمركية ووضع الموازنة العامة، هذا فضلا عن تأكيد الدستور بالطبع على استقلالية القضاء، والتزام الدولة بتوفير الخدمات الأساسية لكل المواطنين.

ذلك جانب من النص الدستوري الذي يشع بريقا وينافس دساتير كبرى دول العالم العتيدة في مجال الديمقراطية. ولكن الممارسة كانت شيئا مخالفا إلى حد كبير لمعظم إن لم يكن لكل ما يشع بريقا. فعلى مدى 12 عاما شهدت العراق أحداثا أقل ما يقال فيها أنها بعيدة تماما عن النصوص الدستورية، وكأن هذه النصوص أصبحت حبرا على ورق. وليس ذلك تقييمنا وحدنا، بل هو لسان حال كثير من السياسيين العراقيين أنفسهم سواء كانوا في الحكم أو خارجه، حيث لم يتوقف أحد منهم عن التحذير من تجاوز الدستور في هذا القرار أو ذاك أو في هذا الحدث أو غيره من الأحداث المؤسفة تارة والمثيرة للخلافات والجدل تارة أخرى، مما كان يثير دائما التساؤلات عن السر وراء هذا التناقض بين النص والتطبيق.

من يراجع النص الدستوري يصل إلى استنتاج مؤكد بأن الهدف منه هو بناء دولة مدنية ذات نظام حكم ديمقراطي ليبرالي، ولكن سرعان ما يلحظ أن ما يجري على أرض الواقع هو أن القوى السياسية ذات التوجهات الدينية والمذهبية حاضرة وبقوة سواء في ردهات البرلمان أو الحكومات المختلفة أو في الشارع السياسي ذاته، والتناقض هنا هو أننا أمام دستور هو بالأساس القانون الفيدرالي لسلطة مدنية تماما دون أن ينتقص من أهمية الاعتبار الديني فيفترض أن له وضعية خاصة مقدرة جدا ولكنها مستقلة وبعيدة عن عالم السلطة والسياسة، بينما الواقع يقول إن المرجعيات الدينية أيا كان لونها لها القول الفصل! وذلك حسبما يرى الكاتب.

وفيما يتعلق بتكافؤ الفرص وتوزيع ثروة النفط والغاز وتوفير الخدمات العامة، فإن الاحتجاجات المتتالية لعدة محافظات وأقاليم، ضد الحكومات المتتالية انطلقت أساسا من شعور المواطنين بأن مبدأ تكافؤ الفرص غير محترم، وأن هناك تمييزا بالفعل على أساس الدين أو المذهب، بل وداخل المذهب الواحد وفقا للواسطة وغيرها من الوسائل غير الصحيحة، وكم بدا غريبا أن بلدا غنيا بالنفط والغاز تصل فيه مشكلة البطالة حدا مرتفعا، كما أن ثروة النفط والغاز ذاتها ظلت موضع جدل بين الحكومة الاتحادية وبعض الأقاليم (وقائع أحداث كركوك على سبيل المثال)، وكذلك الخلافات بين الأكراد في الشمال والحكومة المركزية حول أكثر من قضية أمنية واقتصادية وصلت إلى حد رغبة أهل الشمال في الانفصال، ووقع بشأنها ما وقع من أزمات انتهت إلى التجميد قبل أن تفجر الأوضاع كلها. وكانت أحداث البصرة عنوانا صارخا على عدم الالتزام الدستورى بتكافؤ الفرص وتوفير الخدمات الأساسية ومنها الكهرباء والماء، أو على الأقل الصعوبات الكثيرة أمام الحكومة.

ومع أن النص الدستوري يحظر إنشاء الميلشيات العسكرية، إلا أن حرب تحرير البلاد من تنظيم داعش الإرهابي أكدت للجميع بأن هناك ميلشيات تصل في عتادها وقوتها إلى وضع الجيوش الصغيرة، وكان لها دور مؤثر في محاربة هذا التنظيم واضطرت الحكومة المركزية إلى التعاون معها والإقرار شرعيا بوجودها. واتضح أيضا أن بعض الأحزاب السياسية المؤثرة وبعضها مشارك في الحكم لها ميلشياتها المسلحة! مما يتناقض تماما مع أي ممارسة ديمقراطية للحزب السياسي.

ومع أن النص الدستوري أيضا أشار في الأحكام الانتقالية إلى أن مجرد العضوية في حزب البعث المنحل لا تعد أساسا كافيا للإحالة إلى المحاكمة ويتمتع العضو بالمساواة أمام القانون والحماية ما لم يكن مشمولا بأحكام اجتثاث البعث والتعليمات الصادرة بموجبه، بما يعني أن الانتماء للحزب ليس جريمة في حد ذاته، وإنما المشاركة من جانب العضو البعثي في جرائم النظام القديم، إلا أن النص الدستوري نفسه أقصى البعث وعضويته من العملية السياسية عندما تحدث عن حظر بعض الكيانات السياسية، كما سلفت الإشارة. وليس خافيا أن هذه المسألة تحديدا لا تزال تشكل عقبة كؤود أمام الانتقال الديمقراطي السلمي في العراق، حيث غالبا ما يجري اتهام الخصوم السياسيين أو الأفراد المستهدفين بالاستبعاد من الوظائف بأنهم بعثيون صداميون ولا يحق لهم التمتع بالحقوق التي وردت في الدستور.

في تفسير استمرار معضلة الانفصال بين النص والتطبيق الدستوري هناك أكثر من رأي أحدهم يرجعه إلى أن دستور 2005 ما كان له أن يصدر بالأساس وكان يتعين إصدار دستور مختلف، لأن من وضعه هو برايمر الحاكم العسكري الأمريكي للعراق بعد 2003 ومن ساندوه هم الشخصيات التي جاءت من الخارج بعد سقوط نظام صدام وحرصوا على إرضاء «المحتل الأمريكي» لكي يفتح لهم الطريق إلى قيادة البلاد. وأصحاب هذا الرأي لا يعيرون اهتماما لكل البريق الذي يشع به هذا الدستور ويركزون فقط على أنه كان الإطار القانوني الذي مهد الطريق للقوى الجديدة وليس لبناء نظام حكم ديمقراطي حقيقي. وهناك رأي آخر يركز على أنه دستور تم وضعه والبلاد تحت وطأة الاحتلال أو على وجه الدقة في ظل وجود قوات التحالف وبالتالي لم يكن لا للسياسيين والنخبة ولا للشعب دور في صياغة مستقبل الحكم في بلادهم، كما حددها هذا الدستور. وهناك رأي ثالث يرى أن التدخلات الخارجية هي السبب وراء تعثر التحول الديمقراطي وتفعيل دستور يشع بالبريق مثل دستور 2005 لأنها تضغط على القوى السياسية لتحقق مصالحها هي لا مصالح العراق. ولكن الآراء الثلاثة تمثل وجهة نظر الرافضين للتغيير الذي تم في العراق وتحوم حولها الرؤية الذاتية. وإنما السبب الموضوعي هو اختفاء التراضي والتوافق بين القوى السياسية على العيش المشترك، ولو تحقق فإن الجميع سيجعل مرجعيته هذا الدستور بغض النظر عن ما يحيط به من إحن تاريخية، فما مضى قد مضى والمهم هو النظر إلى المستقبل.