azza
azza
أعمدة

الصمت ولغة الإشارة

27 سبتمبر 2018
27 سبتمبر 2018

د. عزة القصابية -

يقولون إن الصمت أبلغ من الكلام، وهو سمة الحكماء والفلاسفة، لذلك فإنه ليس بغريب أن تتأثر فنون عدة بلغة الصمت. وبعضها يختزل رسالته في لوحة فنية بصرية تكون وسيلتها الخطوط والألوان والظلال، والبعض يحصرها في الغناء والأداء الراقص والألحان كالأوبرا والبالية.

عندما تحاكي الدراما الواقع، فإنها تمزج بين المنطوق والبصري، وتسعى للكشف عن التركيبة البشرية التي تحتفي بالتعبير الجسدي. ويقوم التعبير الصامت بالتنفيس عن المواقف المؤثرة، والتعبير عن الذات الكامنة بأسلوب جمالي يبهر العين، ويخاطب الإحساس والوجدان معا.

جميع ذلك تبادر إلى أذهاننا ونحن نحضر ندوة نظمتها فرقة هواة الخشبة في النادي الثقافي تحت إشراف اللجنة الوطنية للشباب. وضمت مائدة النقاش مجموعة من المتحاورين: شاكر عبد العظيم، وسعيد السيابي، ومحمد الحبسي وعبدالرزاق الربيعي.

وفي المجمل العام، اتفق الجميع على أن التمثيل الصامت والتعبير الحركي لغة مشتركة بين الشعوب، وهو قديم حديث، يدخل في تركيبة المجالات الاجتماعية والثقافية والاتصالات والعلاقات العامة، إضافة إلى الحقل الفني بأسلوب جمالي يؤكد أهمية الموضوع المطروح.

ولم تكتف فرقة هواة الخشبة بتقديم ندوة (فن الباتميم)، ولكنها وضعت برنامجا شاملا تضمن إقامة معرض فوتغوغرافي مصاحب يؤكد صورة هذا الفن الجميل ومدى تأثيره على إنتاج أعمال إبداعية تجسد لحظات الصمت، في ظل تنامي التقنية والثورة الرقمية، وغلبة المنطوق على البصري.

فضلا عن ذلك، فقد سعت الفرقة إلى تقديم ورشة تدريبية في الأداء الصامت (فن البانتيوم) بعنوان (الرؤيا) بالنادي الثقافي، من تأليف وإخراج شاكر عبدالعظيم، الذي جاء من بلاد الرافدين حاملا خبرته الواسعة، ليقدم رسالته الفنية بتدريب وتنشيط أعضاء فرقة هواة الخشبة التي تأسست بجهود شبابية هواة عام 2012م.

يتخذ التعبير الحركي والتمثيل الصامت مفهوم (البانتيوم)، وهو مصطلح إغريقي مشتق من كلمتين: (Panto) وتعني كل شيء، و(Mimeomai) وتعني أقلِّد.

ويُطلق (فن البانتيوم) على المَشاهد الراقصة الصامتة والحركات والأفعال والإيماءات للتعبير عن الانتصار في الحروب كما هو الحال في الحضارات القديمة، أو في الاحتفالات الاجتماعية والدينية عبر رموز إيحائية ذات مغزى.

أدى (تليست) اليوناني فن البانتومايم في مسرحية (سبعة ضد طيبة) للكاتب اسخيليوس، إضافة إلى دور الممثل (لوسيان سوماستا) خلال الفترة (125-190ق.ب) . ورغم العمق التاريخي لهذا الفن، إلا ان مساحة تطبيقه في العالم، أصبحت ضيقة اذا ما قيست بأنواع الفنون الأخرى.

ينتشر هذا الفن بين الفرق الفرنسية واليابانية والصينية، ومن رواده الفنان الفرنسي (مارسيل مارسو) الذي يتمتع بقدرات جسدية وتعبيرية وإيحائية تعينه على تخيل الإحداث التي تحتاج إلى فن (البانتومايم). وتخرج من مدرسته مجموعة رائعة من الفنانين ، اشهرهم الممثل (آميل) الذي تخصص في تمثيل اللوحات المسرحية المستقلة آو المشاهد المسرحية القصيرة.

اشتهر (مارسو) من خلال شخصية المهرج التي تعادل شخصية (شارلو) شارلي شابلن. واعتبر النقاد هذه الشخصية من أشهر الشخصيات الإيمائية، وهي شخصية ترمز للإنسان عند معايشته لمواقف متناقضة ومتعددة، وعن هذه الشخصية قال مارسو: «أشعر بأنني سجين داخل فني. فالجمهور لا يحب مني أن أتكلم أو أكشف عن ملكاتي الخاصة أو أتقمّص شخصية أخرى خلاف شخصية المهرج، أو أن أتجاوز نطاق الإيماء المتميّز الذي أبدعته. والجمهور لا يستشعر ارتياحا لشخصية غير (مارسو) الذي اعتاده وصار مألوفا لديهم».

أسس مارسيل فرقة (مارسو الإيمائية) التي استطاعت دخول أكبر المسارح الباريسية والعالمية، وقدمت العديد من العروض الجسدية الصامتة خلال الفترة (1950 - 1960). ومزج مارسو بين حياته وفنّه لدرجة أنه حول منزله إلى قاعة لأداء تدريبات لفن البانتيوم. كما أسس كلية (الإيماء الدرامي الدولية) في باريس عام 1987، التي لا تزال تخرّج العديد من الفنانين الإيمائيين حتى اليوم.

يرتبط فن الأداء الصامت بلغة التعبير الجسدي وفن الإشارة، وتشير الدراسات الحديثة إلى أن هناك كثيرا من علوم الاتصال والاجتماع والعلاقات العامة تحتفي بلغة الجسد الإيحائية والحركية. إذ تشكل لغة الإشارة (غير المنطوقة) ما يقارب 70% من الاتصال اليومي لدى الناس، بينما تأتي الكلمة المنطوقة بنسبة 30%. ويخضع البشر لاإراديا للغة الإشارة الحركية والتعبيرية. وهناك لغة الإشارة التي ترتبط بتعابير الوجه عند الخوف والفرح والغضب والسعادة، وأشار الباحث الأمريكي بول إيكمن (PaulEkman) إلى وجود إشارات وملامح جسدية كثيرة تعكس الحالة المزاجية للشخوص.

فعلى سبيل المثال، تعد العينان وسيلتين مهمتين للتعبير عن الذات، وردود الأفعال في المواقف المحرجة، كما تعكس تعابير وحركات الوجه حالة القلق والخوف، وعدم الراحة أو الاستنكار.

هكذا تظل لغة الجسد والتعبير الحركي حاضرة في حياتنا اليومية، ومن الطبيعي أن تستعين الفنون والآداب بهذا الفن الصامت ذات الدلالات الإيحائية الإشارية غير اللغوية، ولكنه ذات تأثير كبير على الآخر، ولا يمكن الاستغناء عنه، وهو حاضر في حياتنا اليومية، في حركاتنا وسكناتنا، فشكرا لفرقة هواة الخشبة للتذكير بهذا الفن.