إشراقات

الحذر من مشيعي الفاحشة

27 سبتمبر 2018
27 سبتمبر 2018

د.ناصر بن علي الندابي -

«الدعوة إلى الفضائل أفضل من الدعوة اليوم والتركيز على مفهوم القيم، إذ إن الفضيلة تعني كل شيء حسن، وكل القيم الحسنة الصالحة والرذيلة تعني كل قبيح وكل خلق سيئ، والتمسك بمفهوم الفضيلة يبين للناس أن القيم كلا لا يتجزأ؛ فلا يمكن للإنسان أن يتمسك بقيم على حساب قيمة أخرى».

الفرد المسلم هو نواة الأسرة المسلمة والأسرة هي نواة المجتمع المسلم والمجتمع المسلم هو لبنة العالم الإسلامي، فصلاح الفرد من صلاح العالم، السلسلة متتالية متراكمة، لا يمكن أن ينفك جزء منها عن الآخر، وهذا الفرد المؤثر على هذا العالم بأسره يتكون من جسد وروح، فإن غلّب جسده على روحه ركن إلى الدنيا وانحدر إلى الحضيض، وإن سما بروحه على جسده كان خير مخلوقات الله وأكرمها.

وإن الروح أو النفس البشرية لها أسرار وأعماق أبحر فيها العلماء والأطباء والفلاسفة، ولكنهم ما زالوا يسبحون على شواطئها، فلم يصلوا إلى أعماقها ولم يكشفوا أسرارها، بل وحتى لم يتمكنوا من معرفة موقعها من هذا الجسد الظاهر للعيان؛ ولذلك فلا غرو أن أقسم الله عز وجل بها في كتابه العزيز حين قال: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا».

وعلى الرغم من عدم مقدرة الإنسان على الوصول إلى كنه هذه النفس إلا أنه يعلم حقيقة العلم أنها هي الموجه الأول والأخير لهذا الجسد، فصلاح هذه النفس هو صلاح لكل أعضاء الجسد، وفسادها من فساده، وبيّن لنا المولى جلت قدرته أن هذه الروح تحمل شيئين متناقضين، وقوتين متضادتين، الفضيلة والرذيلة.

ولقد أرشدنا المولى عز وجل إلى الأسلوب الأمثل في التعامل معها، وكيف يمكن للإنسان أن يسمو بروحه وجسده ليبلغ الذرى والمجد الأسمى في الحياة الدنيا والآخرة، وكشف لنا سبحانه وتعالى -وهو أعلم بهذه النفس التي خلقها- كيفية بلوغ سلّم الفضيلة والتعالي على الرذيلة من خلال هذه النفس بقوله سبحانه: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا».

إن الآية الكريمة الآنفة الذكر تظهر للإنسان وتبين له أنه هو من يقود زمام النفس، وأنه لا يوجد على هذا الكون من هو قادر على إجباره على أمر لا يرغب فيه، فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى الاختيار في إصلاحها وفي تركها تسبح في ملذات الدنيا ولذائذها.

وقد أناط المولى وجعل الفلاح بإصلاحها وركّب الفساد كل الفساد في إهمالها وتركها، وإن اهتمام الإنسان بنفسه وبإصلاحها يجعل من الآخرين يظنون أنه لا يملك نفسا أمارة بالسوء، ولكن في الحقيقة هذا لا يمكن أن يحدث، وليس من سنن الكون ونواميسه، ولكن الإنسان حينما يسمو بنفسه ويصلحها يجعل حظ الشيطان ونصيب الرذيلة غير ظاهر إذ تطغى عليه الفضيلة، فلا يظهر من النفس إلا الخير، ولا يتأتى بلوغ هذه المنزلة إلا بالمجاهدة والمصابرة، فالملذات التي تجذب النفس إلى الحضيض والفساد كثيرة، ولكن إن اعتادت النفس على طريق الصلاح سهل على صاحبها حملها على الجادة والطريق المستقيم، ولقد أحسن الشاعر في وصف هذه النفس وكيفية التعامل معها حين قال:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فالاعتياد على الشيء وتكراره يتحول إلى سجية وعادة، ويصبح خلقا مطبوعا، وحال هذا الأمر كحال صاحب الحرفة والمهنة، فحين يتعلم الانسان صنعة جديدة يجد في البداية صعوبة كبيرة في فهمها والأخذ بفنياتاها ولكنه حين يمارسها ويستمر على تعلمه وتطبيق ما يتعلمه، يتحول بعدها إلى محترف في تلك الحرفة وعارف بكل دقائقها وعظائمها فيسلك الطريق الصحيح فيها .

ومن هذا فإن الفضيلة أن تكون إنسان فاضلا بقدر ما تستطيع، والرذيلة هي ألا تكون رذلا قدر الإمكان، والفضيلة أن تكون منسجما مع ما تراه من الفضائل في كل مكان وزمان، فليس للفضيلة مكان ولا يحدها زمان، فكن فاضلا في المنزل وفي الطريق وفي العمل وفي كل مكان تخطوه قدماك.

وللأسف نجد أن هناك أناسا يتمسكون بالفضيلة وحسن الأخلاق في محيط بلادهم، ليس لأنهم حقا فضلاء ولكن لأن المكان الذي يعيشون فيه ومعرفة الناس بهم يحتم عليهم التمسك بهذه الخصال الحميدة ولكنهم حينما يغادرون تلك البقاع إلى بقاع لا يعرفهم فيها أحد تظهر حقيقتهم، إذ يتجردون من كل سجية مرتبطة بالفضيلة.

وحقيقة الأمر أن الفضيلة هي نصفك الآخر المفقود عندما تطغى الرذيلة، والرذيلة هي جزؤك الذي تهرب منه أو تحاول أن تدوس عليه لكي لا يظهر أو يسيطر على الكل.

ومن هنا فإن الدعوة إلى الفضائل أفضل من الدعوة اليوم والتركيز على مفهوم القيم؛ إذ إن الفضيلة تعني كل شيء حسن وكل القيم الحسنة الصالحة، والرذيلة تعني كل قبيح وكل خلق سيئ، والتمسك بمفهوم الفضيلة يبين للناس أن القيم كل لا يتجزأ؛ فلا يمكن للإنسان أن يتمسك بقيم على حساب قيمة أخرى.

ونظرا لذلكم التداخل بين مفهوم الفضيلة والرذيلة الذي حدا ببعضهم إلى القول:إنه ما من فضيلة من فضائل الإنسان إلا ولها رذيلة من شكلها، ولا رذيلة إلا ولها فضيلة من جنسها» ومن هذا فإن تدخل الإنسان في الحكم

على العمل الذي يقدم عليه الناس بأنه فضيلة أو رذيلة هو ضرب من ضروب المجازفة، فقد يؤدي هذا الأمر إلى فساد المجتمع، فلا يمكن أن نحكم على عمل ما دون أن يكون كتاب الله هو المحتكم، فإن نفوس البشر وأفكارهم تتغير من جيل إلى جيل ومن مكان إلى مكان.

وركون الناس إلى هذا الفكر يجعلهم يصدرون الأحكام الخاطئة، فربما ينسب إلى إنسان فضيلة ما، وهو في الحقيقة شكل من أشكال الرذيلة، ولنضرب مثالا على ذلك ليتضح المقال: يحكم في بعض الأحيان على الحازم المتأني بأنه رعديد جبان، أو على المقتصد المدبر بأنه بخيل شحيح. ويحكم على المبذر المسرف بأنه جواد كريم، أو على الوقح قليل الحياء بأنه جريء صريح، وعلى الطائش المتهور بأنه شجاع مقدام، ولهذا فإن الفيصل والمحك في كل ذلك تعاليم الدين فما وافقها كان فضيلة لا مراء فيها وما خالفها فلن يختلف اثنان على أنه رذيلة يجب اجتنابها.

وفي كتاب الله عز وجل الشيء الكثير الذي يوضح ضروبا من الفضيلة التي يمكن أن نفهم من ضدها أنه رذيلة وقيمة سيئة يقول سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا»، ويقول سبحانه في وصف المؤمنين: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا»، كما يبين الله سبحانه وتعالى الكلام الصحيح الخالي من كل أنوع الثرثرة والتبجح فقال عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» .

وتدلنا تعاليم الدين أن التأخر عن القتال والهروب منه حين تكون لدينا القوة والعدة يعد في ميزان الرحمن جبن وذل وعار قال تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ» أما إذا وجهنا هذا الأمر إلى آراء الناس وأفكارهم وأحكامهم فقد يحكمون على الأشياء من نتائجها وعما تسفر عنه.

ومن هذا يمكن أن نفهم هذه الفكرة من خلال هذه الأمثلة، فلو انقض فارس واحد على مائة من الرجال وتمكن منهم وقتل منهم خلقا كثيرا وهرب من تبقي عن النزال، فإن الناس سيصفونه بالفارس المقدام الذي لا يقاوم ولا يقهر، وهو نفسه إن تمكن منه هؤلاء وقتلوه قال الناس عنه: إنه طائش متهور، ومن هذا يتضح أن الناس تقيس وتضع الأحكام تبعا للنتائج وهو مقياس ليس بصحيح.

وخلاصة الأمر وبعد أن وضح لنا مفهوم الفضيلة والرذيلة وعرفنا ما يصلح المجتمع وينميه وما يفسده ويرديه فعلى الإنسان وهو يسير في هذا العالم المليء بكل الشهوات التي تدعوه إلى الميلان والخنوع أن ينتبه ويضع نصب عينيه مراقبة الله سبحانه وتعالى له، فلا يكون إمعة بل عليه أن يقود المجتمع نحو الصلاح والجادة، كما عليها أن يكون معول بناء لا معول هدم، وأن يكون ممن يسعون إلى منع الفاحشة لا إلى إشاعتها والحث عليها.