أفكار وآراء

الطريق الفضائي الثالث لمبادرة الحزام والطريق

25 سبتمبر 2018
25 سبتمبر 2018

د.صلاح أبونار -

في نوفمبر 2013 أطلقت الصين رسميا مبادرة طريق الحرير الجديد التي يطلق عليها رسميا: «مبادرة الحزام والطريق»، اختصارا لاسمها الأصلي: «حزام واحد طريق واحد»، وحسب الشهادة التي ألقاها جوناثان هيلمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في يناير 2018، أمام «لجنة مراجعة العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين» التابعة للكونجرس الأمريكي، تعتبر المبادرة: «أكثر الرؤى الاقتصادية الجغرافية طموحا في التاريخ الحديث»، فحسب البيانات والخطط الصينية الرسمية، تشمل المبادرة 70 دولة، وتنشط عبر رقعة جغرافية يسكنها ثلثا سكان العالم، وتخطط لاستثمار 4 تريليونات دولار.

ولكن نوفمبر 2013 ليس سوي تاريخ إطلاقها الرسمي، وقبل هذا التاريخ كانت مقدماتها التاريخية حاضرة. كانت حاضرة في صيرورة النمو الاقتصادي الصيني الهائل الذي تحقق عبر معدلات نمو سنوي عالية وصلت إلى 8% على مدى عقد متواصل، وحقق تراكمات مالية وإنتاجية هائلة، وأسس شبكة علاقات اقتصادية متنوعة وكثيفة ربطت الصين بغالبية دول العالم. ولكن عند نهاية العقد الأول من القرن الجديد نشبت أزمة 2009 المالية العالمية، وجاءت معها بتراجع حاد في معدلات النمو والتجارة العالميين، وتراجع معدل النمو الصيني بحدة لعدة أعوام. وهكذا واجهت الصين مأزقا فرض عليها المحافظة على أسواقها الخارجية، داخل أسواق عالمية آخذة في التراجع، ووجدت حلا في سياسة الاستثمار المكثف الخارجي بشروط ميسرة لرأس المال، عبر مشاريع مبادرة الحزم والطريق.

ولكن المبادرة كان لها أيضا مقدماتها الحاضرة في طبيعة التوجهات الصينية الخارجية. ابتعدت الصين في مرحلة ما بعد ماو عن سياسة التكتلات الدولية والمحاور الإقليمية، وانتهجت سياسة خارجية سلمية وتعاونية هدفها الأساسي ضمان سياق سياسي خارجي يساعد على النمو الصيني، ولا يستهلك مواردها في صراعات جانبية. وترتب على ذلك أنها أصبحت قادرة على التعامل الاقتصادي مع الجميع، وقادرة على مواصلة تنمية مصالحها في سياقات إقليمية زاخرة بالأزمات والحروب، وبالتالي لم تجد فقط أغلب الاقتصادات الوطنية مفتوحة أمامها، بل وجدت أيضا مناخ ثقة وتفاهما يمنح استثماراتها المكثفة أمنا استراتيجيا على المدى الزمني الطويل.

جرى العرف عند الحديث عن المبادرة الإشارة إلى طريقين: الطريق البحري والطريق البري، وكلاهما يتتبع خطي طريق الحرير القديم، ولكن مع اختلافات كثيرة وجذرية. ولكن لم يحظ الطريق الثالث الفضائي بنفس الدرجة من الاهتمام، وعلة ذلك كثافة الإنجازات على الطريقين الأولين، وما يصاحبها من بناء لطرق سريعة تمهد وسكك حديدية تمتد على مدى آلاف الكيلومترات، ومدن وموانئ ومحاور صناعية تظهر وتتدفق إليها ومنها التجارة، وأخبار أسطورية مثل وصول أول رحلة لخط سكك حديد الصين إلى سواحل الأطلنطي الأوروبية، وكل ذلك وعوامل أخرى جعل الاهتمام بالطريق الثالث الفضائي أقل كثيرا، وساعد على ذلك أن إنجازاته لا زالت في مراحلها الأولى بالمقارنة بإنجازات الطريقين البري والبحري، وأنها في الأساس ذات طبيعة تقنية غبر مرتبطة بالسلع والسفن والنقل والأسواق وإحصائيات التجارة الخارجية والمدن والموانئ الصناعية، وبالتالي بعيدة عن الاقتصاد بمعناه المباشر والتقني والمؤثر في الحياة اليومية والمتصدر لواجهة الاهتمام الإعلامي.

في عام 2016 نشرت الصين وثيقة رسمية من الوثائق المؤسسة للمبادرة أعدتها «إدارة العلم والهندسة»، بعنوان: «تدعيم ونشر طريق المعلومات الفضائي». اختصت الوثيقة بتحديد أهداف هذا الطريق بشكل مفصل، ولهذا حملت العنوان الفرعي التالي: «دليل للبناء والتطبيق».

وهنا نجد أمامنا سؤالين: ما الذي تخبرنا به هذه الوثيقة؟ وإلى أي مدى مضت الجهود الصينية في تنفيذ ما جاء فيها؟ فلنبدأ بالإجابة على السؤال الأول. تتسم الوثيقة بالإسهاب وميل للتفصيل، وبالتالي سنهتم هنا بما نعتبره الأساسي منها. تبدأ الوثيقة برصد السمات الأساسية لوضع الصين الفضائي. بعد 60 عاما من التطور المستقل تمكنت الصين من تأسيس نظامها الفضائي الخاص، وعلومها الفضائية المستقلة والمتكاملة، وفقا للمعايير الدولية المتقدمة. ولكن هذا التقدم لا يزال نسبيا، فلا زالت تكنولوجيا الفضاء الصينية في حاجة إلى المزيد من التطور، والمزيد من تلبية معايير الكفاءة الدولية. ولكنه نقص يخص قطاعات بعينها، وهو إن كان في مرحلته الراهنة يمنع الصين من منافسة أمريكا في مجالات فضائية معينة، فإنه لا يمنعها مثلا من الدخول في منافسة دولية متكافئة في إنتاج وإطلاق الأقمار الصناعية.

ثم تتحدث الوثيقة عن الأهداف على عدة محاور على مستوى ما يمكن تسميته بالمحور الفضائي العام، حيث تحدد الأهداف التالية. المساهمة في بناء أنظمة فضائية وطنية، وتقوية التعاون من أنظمة الفضاء العالمي، ودعم وتطوير نظم الفضاء التجاري الراهنة، وتحسين منشآت وتسهيلات التطبيق والانتفاع بالأراضي من خدمات الفضاء. وعلى مستوى ما يمكن دعوته بالدعم الفضائي للطريقين الأرضي والبحري تحدد الوثيقة الأهداف التالية. من جهة أولى توفير الدعم المعلوماتي الفضائي للأنشطة العامة للمبادرة، مثل تحديد المواقع عبر أنظمة تحديد المواقع العالمية، واكتشاف المجال الجغرافي العام، واكتشاف الموارد الطبيعية وبالتحديد البترول والغاز، وتقديم المعلومات الفضائية لطرق النقل البحري والبري. ومن جهة ثانية توفير الدعم الفضائي للتوسع الاقتصادي الصيني عبر المبادرة من خلال ثلاثة مسارات. الأول الدعم المعلوماتي لعمليات بناء البني الأساسية، من خلال توفير المعلومات الطوبوغرافية، وتقييم التصميمات، وتقديم المعلومات الدقيقة عن المواقع والحركة عبر الطرق البرية والبحرية، والإشراف على البناء في المواقع. والثاني الدعم المعلوماتي لعمليات استكشاف الموارد الطبيعية والمراقبة والتوجيه والنقل. والثالث الدعم المعلوماتي للتوسع الصناعي الصيني في الخارج، من خلال توفير خدمات اتصال سريعة وآمنة للصناعة، وتوفير شبكة للمعلومات المالية والسريعة للأنشطة الاستثمارية. وفي النهاية على مستوى ما تدعوه الوثيقة بتوفير الخدمات العامة، حيث تطالب بالعمل على توفير برامج لخدمات الطوارئ، وتعتمد على المعلومات الفضائية من خلال التعاون في مجال المعلومات وبناء الحلول وتنسيق التحركات الجماعية السريعة. كما تطالب بتوظيف النظم الفضائية لتحسين أمن وحركة الملاحة العالمية في البحار، والأمر نفسه في الأنهار الدولية.

ويتعلق السؤال الثاني بالجهود العملية التي أنجزتها الصين من أجل تحقيق الأهداف. في هذا الصدد يأتي – أولا – التوسع في إطلاق الأقمار الصناعية. أطلقت الصين أول أقمارها الصناعية عام 1970، وفي البداية كانت إمكانياتها محدودة، ولكنها بالتدريج تطورت حتي قاربت الآن المستويات التقنية لأقمار الدول الفضائية الغربية المتقدمة. وفي عام 2012 كانت للصين 13 قمرا وثلاث محطات لإطلاق الأقمار، ونما معدل إطلاق الأقمار الصينية سريعا حتي أنه في تحليل منشور عام 2012 جاء فيه أنه من المتوقع أن تطلق الصين في هذا العام وحده 30 قمرا، وفي يونيو 2018 أطلقت الصين القمر الصناعي «فنجوين -2 اتش» للأرصاد الجوية، الذي يغطي مجاله الصين وكل دول المبادرة وأغلب الدول الإفريقية والمحيط الهندي، والهدف منه تقديم معلومات مجانية بشأن الأحوال الجوية، لدول المبادرة وأعضاء منظمة التعاون الفضائي الآسيوي - الباسفيكي. وهذه الأقمار تتوزع بين أقمار اتصالات، وأخرى لتحديد المواقع عالميا، وثالثة للاستشعار عن بعد للموارد الطبيعية، وهي ترتبط بنظام وقاعدة أرضية لتنظيم تبادل المعلومات، عبر نسق من الشبكات الفضائية العالمية. غير أن ما سبق يخص الأقمار التي تطلقها الصين لحسابها فقط، ولا يخص الأقمار التي تطلقها تجاريا لحساب دول أخرى، وتستمر في المساهمة في إدارتها بالضرورة. اقتحمت الصين سوق الأقمار العالمي عام 2007 من خلال نيجيريا، وبعد ذلك أطلقت أقمارا لحساب البرازيل وفنزويلا وباكستان، ويقدر أنها تستحوذ الآن على 10% من سوق الأقمار العالمي، ومن المؤكد أن نصيبها من السوق سيرتفع سريعا؛ لأن تكلفة القمر الصيني نصف تكلفة نظيره الأمريكي، ولأن الصين تقدم تسهيلات كبيرة في الدفع، ولأن إطلاق القمر الصناعي الصيني يصاحبه منح تسهيلات وبرامج تدريب مجانية ونقل للتكنولوجيا. وتعتبر الأقمار الصناعية الأداة الأساسية لطريق المعلومات الفضائي لكن هناك أيضا أدوات أخرى أهمها إطلاق النظام الصيني للتحديد العالمي للمواقع « بيدو»، وتخليها عن النظام الأمريكي «جي بي سي»، وحتي الآن تستفيد 30 دولة من هذا النظام، وتأمل الصين في رفع العدد ومنافسة النظم الأمريكية والأوروبية والروسية. وقد وقعت الصين اتفاقية مع أمريكا للتوفيق بين النظامين، وهو ما سوف يدعم انتشار نظامها. وتمكنت الصين من تقديم خدمات حيوية للدول المنتفعة منه، مثل خدمة أعمال الزراعة والغابات في فيتنام، والسيطرة على أمراض الآفات الزراعية في لاوس، وخدمة المواقع السياحية في بروناي. وفي النهاية هناك تخطيط الصين لإطلاق محطتها الفضائية الأولى في عام 2019، التي تخطط لتوظيفها لصالح أعضاء المبادرة.