الملف السياسي

نهاية الحرب وليس نهاية الأزمة !!

24 سبتمبر 2018
24 سبتمبر 2018

د. صلاح أبونار -

الأمر المؤكد أن مسألة إدلب تدلف بنا الى الفصل الأخير من الحرب السورية، أو إذا أردنا الدقة: المشهد الأول من فصلها الأخير. غير أن المشكلة أن هذا المشهد يمنحنا مؤشرات نهاية الحرب، وليس مؤشرات نهاية الأزمة التي أطلقت الحرب من عقالها.

يبدأ المشهد الراهن والوضع السوري وقد تغيرت أبعاد كثيرة وأساسية داخله. استعادة الدولة لسيطرتها على مجالها السياسي، سواء بمعنى مجال مؤسسات الحكم المركزي أو المجال الجغرافي لسلطة المؤسسات. وتراجع هائل في نطاق ووتيرة العنف الداخلي، يرافقه تراجع مماثل في حركات النزوح الداخلي والهجرة الخارجية. وتقلص متفاوت في نطاق التدفقات السياسية الخارجية الفاعلة في الأزمة. سواء بمعنى التدفقات الجهادية العابرة للحدود، أو بمعنى الأدوار الدولية الفاعلة في الأزمة ، التي لم يتراجع عددها فقط بل انحصر المؤثرة منها، في نطاق بضعة فاعلين يجمعهما التوافق أكثر من الصراع.

وتندرج حملة إدلب المتوقعة في السياق السابق. شهدت بدايات الربع الثاني من 2017 انطلاق الحملة الأمريكية - العراقية لاستئصال تنظيم داعش في العراق التي انتهت بسقوطه. وعندما قررت أمريكا استكمال مهمتها بتصفية امتداد داعش السوري، شعرت روسيا وتركيا وايران ومعهم السلطة السورية بضرورة تأجيل حربهم ضد التنظيمات الجهادية الاخرى في سوريا، والتحول الى داعش حتى لا تنفرد واشنطن بتوجيه المعركة وجني ثمارها. وشكل ذلك المدخل لتوقيع اتفاقية استانة في مايو 2017 بين روسيا وتركيا وايران، وفيها اتفقوا على وجود اربع مناطق هي الغوطة الشرقية وإدلب وريف حمص ومنطقة الجنوب الغربي، توافقوا على تجميد الصراع فيها بين بقية الفرق المتمردة على السلطة السورية والمتمركزة داخلها، ولهذا دعيت مناطق منخفضة التوتر. وكان الهدف هو تكريس جهدهم للمعركة الدائرة ضد داعش . وما ان انتهى أمر تمركزات داعش الجغرافية والسياسية الأساسية في سوريا، حتى قررت روسيا وسوريا استئناف معاركهما ضد بقايا المعارضة المسلحة، عن طريق تصفية المناطق منخفضة التوتر. وهكذا على امتداد النصف الأول من عام 2018 نجحا في تصفية غوطة دمشق، وتلاها تصفية ريف حمص الشمالي، ثم تحولا لتصفية منطقة الجنوب الغربي. واصبح من المتوقع أن ينطلق الهجوم صوب المنطقة الأخيرة:إدلب.

لم تكتسب إدلب أهميتها من مجرد كونها آخر المعاقل القوية ، ذلك أن السيطرة عليها تحقق أهدافا استراتيجية أخرى. منها ان الكثير من القوى المسلحة المنسحبة من المناطق السابقة اتجهت للتمركز في إدلب، وبالتالي التخلص منها يعني التخلص من تلك البقايا. ومنها ان قاعدة حميميم الجوية الروسية في الشمال، كانت دائمة التعرض لهجمات بالطائرات بدون طيار من جانب هيئة تحرير الشام، واصبح من الملحّ استئصال هذا الخطر. ومنها ان السيطرة على إدلب ستعني التأمين النهائي والمباشر للطريق السريع الممتد من دمشق عبر حماة إلى حلب ومنها الى الرقة، والذي يمر وسط المنطقة وعبر مدنها الرئيسية. ومنها أن السيطرة على إدلب تمثل خطوة استراتيجية للسيطرة على إقليم عفرين الخاضع للسيطرة التركية، ولقطع الطريق أمام التطلعات الكردية لخلق امتداد شمال غربي للمناطق التي تسيطر عليها.

تصل مساحة إدلب الى 4% من مساحة سوريا، وقبل عام 2011 كان عدد سكانها 750000، والآن يتراوحون بين 2.5 و3.3 مليونا. وتحققت تلك الطفرة نتيجة للتدفقات السكانية إليها على مدى سنوات الحرب الأهلية، وعلى الأخص مع استعادة الدولة للمبادرة العسكرية.

وتختلف تقديرات إعداد المسلحين فيها. التقدير الأكثر تكرارا هو 70000 مقاتل، ولكن بعض التقديرات الأمريكية الرسمية تجعلهم لا يتعدون 20000. داخل إدلب توجد فصائل مسلحة كثيرة اغلبها إسلامي، ينتظمهما تحالفان أساسيان: هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير. تمثل هيئة تحرير الشام امتدادا لجبهه النصرة المنشقة عن تنظيم القاعدة، وهي تسيطر على 70% من مساحة الإقليم، ويقدر أنها تضم 10000 مقاتل. وهي عبارة عن تحالف واسع ، ويلاحظ المراقبون أنها لا تحظى بتعاطف سكان إدلب، و فشلت في بناء قواعد اجتماعية قوية فيه. أما الجبهة الوطنية للتحرير فهي تكوين حديث تشكل في مايو الماضي بمبادرة من تركيا، لإرساء ثقل معتدل موازن للجماعات الجهادية المتشددة ، وتتكون من11 فصيلا منضويا في إطار الجيش السوري الحر، وتسيطر على نحو 40% من المنطقة. ولكن هناك قوى أخرى تقف خارج هذين التكتلين. والخلاصة: ان هناك انقسامية تنظيمية شديدة في صفوف المعارضة الإسلامية المسلحة، قابلة للتحول الى صراع مسلح، وقابلة للدخول في تحالفات خارجية متناقضة.

وفي 30 أغسطس اطلق وزير الخارجية السوري، إشارة انطلاقة معركة إدلب. وإذا نظرنا إليها عبر موازين القوى، سنجدها معركة سهلة، ستحسمها القوات السورية لصالحها. فالسلطة السورية تحاصر المنطقة من الشرق والغرب والجنوب، وتوازن القوى بين الطرفين مختل لصالح دمشق، وتكتيك القصف الجوي المكثف والمتواصل الذي يتلوه هجوم بري واسع الذي استخدم في إسقاط المناطق الثلاث قادر على إسقاط الرابعة.

ورغم تلك الحقائق هناك تردد واضح في إطلاق حملة إدلب، نجد علته في أمرين: المعارضة الدولية للحملة والرفض التركي لها. تنحصر المعارضة الدولية في التكلفة الإنسانية للهجوم. وفقا للتحليلات يتسم الوضع الاجتماعي لإدلب بهشاشة عالية، فهناك حوالي 1.8 مليون من سكانها يعيشون على المساعدات الإنسانية، وخلال شهور العام الحالي لم يصل اليهم اكثر من ثلث ما تعهد به المانحون. وهناك نقص حاد في الخدمات الأساسية، وعلى سبيل المثال من ضمن 28 مؤسسة رعاية صحية في إدلب توقف 8 منها عن العمل. ووفقا للتحذيرات الدولية سيؤدي الهجوم علي إدلب إلى نزوح ما لايقل عن 800000، فيما يعتبره - جوتيريس - امين عام الأمم المتحدة - أسوأ كوارث الأزمة السورية. وسيواجه النازحون مشكلة تحفظ تركيا القوي على تدفقهم إليها حيث إنها محملة فعليا بعبء 3.550.000 لاجئ. ولكن هناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة. ذلك ان تضخم سكان إدلب على مدى سنوات الأزمة السبع ، والذي يرجع نسبيا الى نزوح الفئات المعارضة ، يعني أنها ستواجه موقفا محملا باحتمالات مقلقة إذا وجدت نفسها في مجال سلطة كانت تعارضها.

يتبنى التحفظ التركي الأساسي المخاوف الدولية، بل إن تحفظاتها اقوى لأنها محملة بعبء مهاجرين هائل. ولكن لتركيا تحفظ آخر سياسي. فهي تقر بمآلات الأمر الواقع، وان الدولة التي استعادت قوتها ستكمل بالضرورة سيطرتها على مجالها السياسي. غير أنها لا ترحب في المرحلة الراهنة باستعادة دمشق لإدلب، لأنه سيلحق ضررا بمصالحها. فالقرار التالي سيكون استعادة عفرين الواقعة تحت سيطرتها، وهي لا ترغب في ذلك الآن تحقيقا لهدفين.

الأول أنها تخطط لتنمية عفرين لتصبح موطنا لاستيعاب جزء من السوريين اللاجئين اليها، في ظل مشكلات ما بعد نهاية الحرب التي ستحتاج لفترة لحلها، وفي القلب منها عودة المهاجرين الآمنة . والثاني أنها تريد إبقاء عفرين في نطاق تأثيرها، حتى يحسم نهائيا أمر سعي الأكراد السوريين لبناء حكم ذاتي في إطار كونفيدرالي. مسعى تقف ضده دمشق بحسم، بنفس درجة معارضة أنقرة له، ولكن الحيطة السياسية تجعلها متخوفة من خروج الأحداث من نطاق السيطرة، وبالتالي تريد البقاء اقرب ما تكون من موقع الأزمات المحتملة.

ومن الخطأ ان نفترض ان موسكو ودمشق يجهلان او لا يهتمان بالنتائج الإنسانية لحملة إدلب. ولكن لموسكو تحفظ إضافي على استراتيجية الهجوم الشامل، وهي أنها تعرض علاقتها بأنقرة لصدوع عميقة.

وهكذا تأجلت استراتيجية المواجهة العسكرية، لصالح استراتيجية التعاون مع تركيا. وفقا لهذه الاستراتيجية يتم توحيد القوى المعتدلة في جبهة واحدة، وهو ما أنجزته تركيا فعلا بتكوين الجبهة الوطنية للتحرير. وفي المقابل يتم عزل وحصار هيئة تحرير الشام ، ثم إقناعها بالاستسلام والرحيل عن المنطقة.

وبالتوازي تجري محاولات لعزل فئاتها المتشددة، لتهيئتها لقبول الانسحاب الإرادي، وأخرى لدفع قواعد الهيئة للانسحاب منها والانضمام للمنظمات التي ترعاها انقرة. وفيما يبدو ساهمت تلك الرؤية في تشكيل الاتفاق الروسي - التركي الأخير في 17 سبتمبر، الذي نص على إنشاء المناطق العسكرية العازلة جنوب إدلب.

ويصعب تصور مآلات هذه الاستراتيجية. إذ يمكن أن تفشل، وإذا سارت في طريق النجاح ستحتاج لوقت لتحقق أهدافها، ومزجها بهجمات عسكرية محدودة ومحسوبة. وفي كل الأحوال أضحت استعادة دمشق لسيطرتها على إدلب ومن بعدها عفرين، محسومة ولن تتأخر كثيرا. وسيعيدنا هذا للحقيقة الصلبة: حتى الآن نحن بصدد نهاية أكيدة للحرب السورية،ولكن ليس نهاية للازمة السورية.

تواجه الأزمة السورية ثلاثة تحديات: تبني عملية مصالحة وطنية حقيقية قادرة على بناء إجماع وطني جديد، وإطلاق عملية إعادة البناء عبر تحالف دولي قادر على التمويل والمتابعة، والتوافق على ترتيبات دولية لعودة تدريجية وآمنة للاجئين. والنجاح في مواجهة أي منها يرتبط بمواجهة التحديين الآخرين، غير أن تحدي المصالحة الوطنية هو الذي يجب ان تنطلق منة الحركة. وحتى الآن لا تبدو في الأفق بوادر مواجهة حقيقية لهذه التحديات.

فهل سيتغير الوضع بعد استعادة الدولة لكامل إقليمها؟ وهل يمكن وقتها إطلاق مسيرة إجماع وطني جديد؟ لا خيار هنا، هذا واجب مقدس. وبدون تلك المسيرة ستبقى أصول الأزمة قائمة، مثقلة بميراث دمار السنوات السبع، لتدفع سوريا الى ركود تاريخي ممتد ومدمر وباهظ الثمن.