أفكار وآراء

إنهم إسرائيليون أكثر من الإسرائيليين!

22 سبتمبر 2018
22 سبتمبر 2018

د. عبد العاطي محمد -

صاحب هذه العبارة هو صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية معلقا في مؤتمر صحفي برام الله على ما اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي ترامب من مواقف وقرارات صدرت كعقاب من جانبها على عدم استجابة السلطة الفلسطينية للضغوط التي مارستها عليها طيلة الشهور الماضية للقبول بتسوية سياسية مع إسرائيل تمثل تصفية كاملة للقضية الفلسطينية برمتها.

والعبارة تشير إلى أن العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإدارة ترامب قد وصلت في الوقت الراهن إلى طريق مسدود إلا لو حدثت تطورات غير متوقعة، وذلك لأن تعبيرا كهذا لم يرد يوما كوصف للموقف الأمريكي طيلة عملية السلام منذ عام 1992 برغم شدة الخلافات في الرؤى والأفعال بين الجانبين على مدى هذا الزمن الطويل.

ربما فاض الكيل بالمسؤول الفلسطيني من تعسف الإدارة الأمريكية الحالية فأطلق هذا التعبير غير المسبوق، وربما جاء تعبيرا عن رد سياسي من جانب السلطة الفلسطينية يتحدث بنفس لغة الضغط السياسي المتبادل وقابلا للتغيير إذا ما وقع تغيير إيجابي في الموقف الأمريكي. ومع أن هذا وذاك صحيحا وفقا للقراءة الموضوعية للعلاقة المتوترة للغاية بين الجانبين، إلا انه بعيد عن ذلك، وفي سياق البحث والتحليل للخطاب الأمريكي الصادر من البيت الأبيض والمتعلق بكيفية النظر والتعامل من جانبه مع قضية مهمة للغاية كقضية السلام في الشرق الأوسط، يمكن القول أن هذا الخطاب تجاوز كل ما هو متعارف عليه في هذه القضية منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، ووصل إلى النظر لكل الحقائق على أنها كانت «أوهاما أو أكاذيب جرى الترويج لها لكي يعبدها الناس» على حد تعبير جاويد كوشنر مستشار الرئيس ترامب الذي يتولى ملف عملية السلام المجمدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

قد يبدو تعبير عريقات مفهوما أو طبيعيا ومنطقيا، وإن كان في الحقيقة مفاجئا من شدة لهجته ومضمونه لأنه غير مسبوق، فمسار الأحداث منذ ديسمبر 2017 وقت أن أعلن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية وقف التعامل مع الإدارة الأمريكية كوسيط مع الإسرائيليين، كان يشير إلى أن إدارة ترامب ماضية في التصعيد ضد السلطة الفلسطينية كعقاب لها على تحديها لهذه الإدارة التي تتحدث باسم الدولة العظمى في عالم اليوم. فقد ارتبط وقف التعامل بداية مع إصرار الإدارة الأمريكية على اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، وهو ما تم بالفعل في تحد صارخ لكل الأعراف وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن. وبعدها بفترة لم تطل كثيرا هددت الإدارة الأمريكية بوقف مساعداتها لوكالة غوث للاجئين (الأونرا) ونفذت بالفعل تهديداتها التي لم تشمل الوكالة وحدها بل كل المساعدات الأمريكية للفلسطينيين ومن بينها مساعدات لمستشفيات في القدس وأخرى لإقامة مشروعات تنموية في الأراضي الفلسطينية، ولم يمض وقت طويل أيضا حتى قررت هذه الإدارة إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن والذي جاء السماح به في الماضي البعيد نسبيا من جانب الولايات المتحدة لتشجيع الفلسطينيين على الدخول في عملية سلام مع الإسرائيليين وتزامن مع التحول في موقف منظمة التحرير من الكفاح المسلح إلى المفاوضات السياسية.

وفي الطريق الطويل على مدى الزمن الماضي كانت هناك محطات للخصام والتوافق أو الرفض والخلاف والتعاون والاتفاق وأرشيف المسيرة السلمية شاهد بوقائع كثيرة للغاية لا تحتاج إلى إعادة الاستشهاد بها للدلالة على الشد والجذب في العلاقات بين الطرفين، ولكن في المجمل كان الاتجاه العام لحصيلة التفاعل هو استمرار نهج التعاون بينهما، وتعرضت السلطة الفلسطينية، بل والأطراف العربية التي اختارت طريق الأرض مقابل السلام لانتقادات عديدة لا تخفي على الرأي العام العربي باعتبار أن الولايات المتحدة منحازة دائما إلى الجانب الإسرائيلي ولا تمارس ضغطا عليه لتذليل عقبات التفاوض عبر مراحله ومحطاته المختلفة. ومع ذلك ظل حبل التعاون قائما والمراهنة على الدور الأمريكي مستمرة استنادا إلى حقيقة لا يستطيع أن ينكرها أي عاقل وهى أن واشنطن بحكم علاقاتها الإستراتيجية بإسرائيل هي أكثر الأطراف الدولية قدرة على إقناع الدولة العبرية بما تتضمنه كل مفاوضات السلام على مدار الإدارات الأمريكية المختلفة. ولم يتغير هذا النهج مع وصول ترامب إلى السلطة في البيت الأبيض خاصة أنه روج من اليوم الأول بأن لديه حلا سحريا لأزمة معقدة كأزمة الشرق الأوسط، وكلف مستشارا ومساعدين له بهذا الملف هو صهره كوشنر، وبدأت صفحة جديدة من التعامل مع القضية، ولكن اتضح سريعا أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 جاءت بشخصيات في البيت الأبيض لها رؤى متناقضة تماما مع كل ما سبقها من إدارات، بل ومع المجتمع الدولي نفسه، وجوهر هذه الرؤى هو إلغاء كل ما سبق واعتباره كأنه لم يكن، والبدء بتصور آخر هو إحراز صفقة سياسية بين الطرفين: الإسرائيليون والفلسطينيون بضمانة أمريكية تقضي بإقامة دولة واحدة لشعبين يعيش فيها الفلسطينيون كمواطنين من الدرجة الثانية، حيث لا كلام من الآن لا عن القدس ولا اللاجئين ولا الحدود ولا المستوطنات وإنما على إدارة سياسية للأراضي الفلسطينية. والملفت حقا أن هذا التصور فاجأ الإسرائيليون أنفسهم لأنهم لم يسمعوه من أي رئيس أو مبعوث أمريكي سابق، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بخريطة الطريق الأمريكية التي صدرت 2004 وتضمنت إقرارا أمريكيا صريحا بكل القضايا المشار إليها سلفا ووضعت برنامجا زمنيا لحلها، ولكنها انتهت بالفشل بسبب المراوغات الإسرائيلية والاستمرار في بناء المستوطنات إلى حد ابتلاع الضفة الغربية.

وهكذا فإن عريقات لم يخالف الواقع عندما قال إن مسؤولين في إدارة ترامب أصبحوا إسرائيليين أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، فهؤلاء لم يتحدثوا بنفس اللغة التي تحدث بها كوشنر لصحيفة نيويورك تايمز مؤخرا وكشف فيها عن أسباب العلاقة المتوترة بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية، ولم يتحدثوا يوما عن إسقاط كل القضايا المتعلقة بالحل النهائي، وإنما راوغوا وجادلوا وساوموا كثيرا بشأنها. ولنا أن نتذكر في هذا السياق الفرحة الغامرة التي انتابت بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل يوم أن نفذ ترامب وعده الانتخابي ونقل السفارة إلى القدس، ووقتها قال نتانياهو إنها لحظة تاريخية في عمر دولة إسرائيل لأنه منذ إنشائها لم تكن تتخيل يوما أن خطوة كهذه يمكن أن تتحقق يوما ما!!.

كوشنر قال للصحيفة الأمريكية «إن الفلسطينيين يستحقون قرار الإدارة الأمريكية بقطع المساعدات عنهم لأنهم قاموا بتشويه هذه الإدارة». ومع أن هذه الإدارة ذاتها تواجه تشويها غير مسبوق من داخل الولايات المتحدة ذاتها تقوم به الغالبية الأعم من وسائل الإعلام، وكان أخر المشاهد نشر نفس الصحيفة التي أجرت اللقاء مع كوشنر مقالا بدون توقيع يعبر عن وجود جماعة ما من المحيطين بترامب لا يقبلون استمراره في الحكم، كما ترددت بقوة الأنباء عن احتمال لجوء الكونجرس إلى بحث موقف ترامب القانوني، إذا ما حقق الديمقراطيون انتصارا في نوفمبر المقبل ودانت لهم الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، مع كل ذلك توقف كوشنر فقط عند قرار السلطة الفلسطينية وقف التعامل مع إدارة ترامب، لأنها لم تعد وسيطا نزيها. وهل كان منتظرا من السلطة بعد أن أسقطت هذه الإدارة القدس من عملية السلام وبشكل فاجأ الإسرائيليين أنفسهم ولم يكونوا يتوقعونه، هل بعد ذلك تصبح هذه الإدارة وسيطا نزيها أم أن الصحيح حقا هو غير ذلك. ألم يؤيد المجتمع الدولي موقف السلطة واستنكر القرار الأمريكي بما يعنيه ذلك من معنى. ألم تحدث وقائع مشابهة على مدار مسيرة السلام المجمدة اصطدمت فيها السلطة بإدارات أمريكية أخرى، ولكن أيا من هذه الإدارات لم توقف المساعدات وخصوصا بالنسبة لوكالة غوث اللاجئين.

رد كوشنر والذي يعكس محدودية خبرته بقضية كبرى كقضية الشرق الأوسط، كشف النظرة الحقيقية لهذه الإدارة تجاه القضية وهي إقصاؤها من مسار أي تفاوض وإلغاء كل أدبيّاتها والقرارات الدولية الصادرة بشأنها والتعامل معها كصفقة تجارية انطلاقا من خلفية كوشنر كتاجر عقارات ليس إلا! هكذا أراد أن يتعامل مع قضية بهذا الوزن السياسي الضخم كتفاوض على شراء عقار جديد!!.

يقول كوشنر في سياق تبريره لوقف المساعدات «إنه كان يجب استخدامها لتعزيز المصالح الوطنية ومساعدة المحتاجين، ولكن في الحالة الفلسطينية فإن برنامج المساعدات سار لعقود دون خطة تجعلهم (أي اللاجئين) يعتمدون على أنفسهم». هنا مضمون النظرة هو أنه لم يكن واجبا من الأصل وجود قضية تتعلق باللاجئين حيث كان يتعين توجيه المساعدات بما لا يجعلهم لاجئين. كما اعتبر كوشنر قرار الاعتراف بالقدس ونقل السفارة تعزيزا لمصداقية ترامب في تنفيذ وعوده الانتخابية. ومعلوم أن الوعود الانتخابية تظل مسخرة لكسب الأصوات بالدرجة الأساسية وليس بالضرورة أن تتحول إلى قرارات سياسية لأن واقع الحكم عند الدخول إلى البيت الأبيض وضرورات السياسة تفرض تصرفات أخرى مغايرة للوعود الانتخابية. ولكنها الرؤية الشخصية لكوشنر التي حكمت الموقف، فهكذا هو وغيره يرون الأشياء حتى ولو كانت رؤيتهم خاطئة وصادمة. ولكى يريح كوشنر الجميع من النقاش قالها صراحة: «هناك الكثير من الحقائق الزائفة التي تم ابتكارها - التي يعبدها الناس - وأعتقد أن هناك حاجة لتغييرها.. إننا نتعامل مع الأشياء كما نراها وبعدم الخوف من فعل الشيء الصحيح». هنا يصل بنا كوشنر إلى بيت القصيد وهو أن ما كان يجرى العمل به في الماضي مجرد حقائق زائفة!. بالطبع ليس ذلك صحيحا، وإنما هو الذي يفكر تفكيرا زائفا، فيبدو بذلك إسرائيليا أكثر من الإسرائيليين، والعواقب وخيمة إذا ظلت إدارة ترامب على هذا الحال.