988430
988430
المنوعات

مع غونتر غراس في محطّة تشاتراباتي في الهند

20 سبتمبر 2018
20 سبتمبر 2018

أحمد فرحات -

كثيرون هُم الأدباء الغربيّون الذين أَتعَبَتْهم بلادهم فكانوا يغادرونها إلى الخارج ليرتاحوا ويتأمّلوا، ولو إلى حين، ومن بين هؤلاء الروائي الألماني غونتر غراس (نوبل 1999) الذي كان يتردّد على الهند مرّة في السنة أو أكثر، محاولاً إعادة التوازن إلى ذاته المضطربة. وغونتر غراس (1927 – 2015) إلى جانب كونه روائيّاً فذّاً، هو أيضاً شاعر ونحّات ومسرحي يُحسب له حساب في ألمانيا وأوروبا بعامّة، فهو أوّل من بشَّر بانتهاء عصر الشَّخصَنة والدَّوران حول محورها في الرواية، مُدخِلاً «ترسانة السورياليّة» إلى أدبه بغنائيّة ساخِرة وغاضِبة تُناسِب تمرّده وانخلاعه على الجهات، بشراً وبلداناً.

وَصَفَه النّاقد الفرنسي رولان بارت « بأنه سيّد الرواية الجديدة الغاضِبة والأعمال المُعادِية للرواية في ألمانيا». وأثنى على هذا التوصيف ألان روب غريّيه، مُنظّر تيّار الرواية الجديدة في فرنسا وعموم أوروبا، متمِّماً القول في تجربة هذا الروائي المُفارِق «إنّ غراس جدَّد في الرواية على طريقته وبعفويّة قصوى سيطرَت على التنافر الذي كان يختلج فيه، وقد أظهر تنافره هذا بصورة سرديّة هارمونيّة مكثّفة بالرموز والدلالات الواضِحة والغامِضة في آن».

في زيارة شخصيّة لي إلى مدينة دوسلدورف الألمانيّة في أوائل الثمانينيّات من القرن الفائت، التقيتُ بشعراء ومثقّفين ألمان عرّفني إليهم أحد الأصدقاء اللّبنانيّين المُقيمين في ألمانيا.. ودار بيننا حديث عن الشعر والأدب والفلسفة في بلاد «غوته». وبمجرّد أن تفوّهتُ أمامهم باسم غونتر غراس، حتّى بادر أحدهم و«بإنجليزيّة هتلريّة صارِمة» تقصد «بورنو غراس».. مردفاً: « آه، إنّه كاتِب جيّد، لكنّه مُنعزِل وحادّ الطبع شرسه».

ومن دون أن أستفسره عمّا يقصد «ببورنو غراس»، استطرد هو قائلاً: « لا ترتبك أيّها الصديق. أنا أعني أنّه كاتِبٌ إباحيّ ومُنخلِع على إباحيّته ومُستطرِدٌ فيها.. هو مثل «نورمان ميلر» في الولايات المتّحدة، جريء وقاطِع، إيثاريّ وحاسِم، حتّى لتحسبه أحياناً واحداً من جنرالات الرّايخ الثالث القُساة المَلامِح في لحظة نفير جديّة». على أنّ غونتر غراس على حديديّته و«جهامته» يظلّ أيضاً، ينتقل من ضفّة العلاقة إلى ضفّة العزلة ومن الاندغام إلى التجاوز، لكنّ ذلك كلّه في إطار نظرة كيانيّة شموليّة تَحذر من انهيار العالَم وسقوطه في الفراغ؛ لا بل إنّه استشرفَ هذا الفراغ الأصفر القاتِل من خلال ما سَرَده في إحدى رواياته عن الفئران التي ترث الجنس البشري على الأرض، بعد دمارها بكوارث نوويّة. ومثل هذا الدمار النوويّ، يحذِّر منه كلّ إنسان عاقل وكبير يحرص على وطننا جميعا: الأرض. إنّ هذه مهمّة عظيمة يتجنّد لها هذا الكاتِب الحادّ الشعور، المُدرِك عميقاً لمعنى لعبة تدمير الإنسان لنفسه، وعجْزه في الوقت عينه عن الإقلاع عن لعبة التدمير هذه، والتي تقف خلفها، ولا شكّ، مجموعة من أباطِرة السياسة المتسلّطين المَرضى بالساديّة في غير مكان من هذا العالَم. روايات غونتر غراس، تدلّنا دائماً على خصوصيّات رغبتنا فيها، وكلّما حاولنا استجلاء جوانبها، ازددنا غرقاً في أمدائها؛ وهي عبارة عن خليطٍ مُتوازِن من الرقص التعبيري والكلام الصامت، المُندمِج في تطهيريّة مُستغرقة تنال من قارئها تماماً.. ويعرف الروائي غراس في النتيجة كيف لا يجعل من مضمون كتابته تعبيراً عن معنىً أوّل.

يصنع غراس روايته من جحيم حياته وتشنّجاته وانقلاباته الخاطِفة، وتلك البعيدة الحاذِقة.. على الأقلّ هذا ما توحي به بعض أعماله التي قرأناها مُترجمةً إلى العربيّة مثل «طبل الصفيح» و»القطّ والفأر» و»سنوات الكلاب» (ثلاثيّة داينتسغ التي كتبها ما بين سنوات 1959 و1963)، فضلاً عن رواياته اللّاحقة زمنيّاً مثل «مئويّتي» – 1999 و«مشية السرطان» - 2002 و«الرقصات الجديدة» - 2003. ففي مثل هذه الروايات (بخاصّة «طبل الصفيح») يقطع غونتر غراس مع الحقيقة البشريّة التعسّفيّة بحقّ نفسها وحقّ العالَم أجمع عندما تنتج الحروب والكوارث الكبرى على غرار الحرب العالَميّة الثانية التي «تجعلنا، واعجباه، نسخاً مشوّهة عنها، تتحرّك دائماً فينا وقبالتنا، على الرّغم من توقّفها مادياً».. ويظلّ غراس صارِماً مع أورام العصور جميعاً: الحروب، وما تخلّفه من ذكريات ونتائج شاذّة تعكس نفسها لاحِقاً في عقد السياسات الكولونياليّة الغربيّة المتحكِّمة في أغلب جوانب الحياة الحديثة، المُفضية بدَورها إلى إدراكٍ مُشتّتٍ للبشريّة. إنّه كاتِب مسؤول بدرجة عميقة ونافِذة. يُدرِك أنّ المستقبل، مثل التاريخ، يظلّ أساساً للفَهم السببيّ للوقائع جميعها. وربّما لأجل ذلك، يظلّ غونتر غراس كاتِباً قويّاً بموقفه، مهزوماً بقلبه.. وخائِفاً دائماً من أن تُسرَق منه نفسه في درجة مُفاجِئة من العنف المجنون، تديره حفنة من المشوّهين الكِبار، تحرِّكهم الأحقاد والأنانيّات والتَّنافسات الوسواسيّة الضيّقة. غونتر غراس هو الصوت الذاتي لأبطاله المهجّسين بالموت تحت وطأة الآليّات اليوميّة الطاحنة.. ومن هنا رأيناه في خلاصاته الأدبيّة ينتقل إلى مرحلة من التعقيد والازدواج في كلّ شيء. إنّه يُحاوِل أن يجعل العالَم أفضل قليلاً... فهل يستطيع؟ الجواب برسم قرّائه، وهُم كثر في هذا العالَم، ويتوزّعون على أكثر من خمسين لغة، ما بين حيّة ورئيسة وهامشيّة.

هانز مانشتاين الغريب الأطوار

كان كاتبنا الكبير – وكما ذكرنا في مستهلّ كلامنا - من المُغرمين بزيارة الهند واكتشاف المزيد من عوالِمها البشريّة والثقافيّة والفنيّة. فالهند بما فيها من أجواء أسطوريّة وخرافيّة وبدئيّة تعويذاتيّة، تجدِّد خيال الكاتِب الأوروبي المُصادَر بالنّظام البارد للأمور، كما تبعد عن لغته ضباب السأم والتبرّم بالعالَم، فيستحيل موقفه في الحياة، وفي النصّ الأدبي، حالة تتطاول إلى خارجها، بدلاً من أن تظلّ تعبث بنفسها.

التقيتُ شخصيّاً غونتر غراس في مقهى صغير في محطّة تشاتراباتي شيفاجي في مدينة مومباي الهنديّة في ربيع العام 1986. كان دليلي إليه هانز مانشتاين، وهو شاعر ألماني صديق اختار الإقامة الدائمة في الهند « لأنّها باب العالَم الآخر غير المُغلَق على الأسرار»، وعدم العودة، ليس إلى وطنه ألمانيا فقط وإنّما إلى دول الغرب قاطِبة. هانز شاعرٌ غريب الأطوار، صارِمٌ في قراراته، ثَمِلٌ بهستيريا اللّاوعي فيه، لا يحبّ الشهرة ولا أضواء الإعلام أنّى كانت، وخصوصاً الأوروبيّة منها. ومن هنا سبب إعجاب غونتر غراس به وحرْصه على أن يلتقيه في كلّ مرة يزور فيها بلاد غاندي.

قدّمني هانز إلى غونتر غراس باعتباري من «فريقنا المُشترَك الذي يحبّ الهند بعقليّة عميقة، فعّالة وسديدة». هزَّ الروائي غراس رأسه مرحّباً، مُبتسِماً ومُضيئاً لي، على جناح السرعة، بعض الزوايا المجهولة في أعماق نفسه، فبادلته الترحيب بأحسن منه، كاسِراً حاجز الرّهبة منه ككاتِبٍ كبير، وقائلاً له: أهلاً بالروائي الفذّ القادر على زرْع اللّين في قلب القسوة والقسوة في قلب اللّين، أهلاً بمقدّم «المعرفة الأدبيّة» في أطيَب كأس وأمتَع كلمة. ما الذي جاء بك إلى محطّة تشاتراباتي شيفاجي يا سيّد غراس؟ أجابني على الفور: إنّه اختيار صديقنا المُشترَك هانز على ما يبدو، ونِعم الاختيار على كلّ حال؛ فهذا المبنى الشهير لمحطّة القطار في مومباي، الذي يَجمع بين الفنّ المعماري القوطي الفيكتوري وفنّ العمارة الهنديّة التقليديّة في معجزة واحدة من الحجارة النّاطِقة والمُشتبِكة بالزخرفة إلى حدّ الإسراف.. تحوَّل بالفعل إلى آية فنيّة لا تُضاهى، وإلى واحدة من عجائب الدنيا التي حرّكت اليونسكو، ودفعتها إلى ضمّها في سلسلة سجلّها الذهبي: «من التراث العالَمي».

هل يُحرِّك فيك شيئاً القول إنّ قبائل القوط الجرمانيّة هُم جذر جذور الفنون المعماريّة في أوروبا وذلك منذ اجتياحهم إيطاليا في القرن الخامس الميلادي؟ أجاب غراس عن سؤالي مُبتسماً: سؤالك ترشح منه عنصريّة معيّنة وأنتَ العربي في المَوقِع الحيادي هنا.. ثمّ استطردَ والابتسامة على محيّاه قائلاً: أنا أمزح هنا.. أمزح ليس إلّا.. وأردف: نعم، الفنّ القوطي تداخَل مع سائر الفنون المعماريّة، قبله وبعده، وهو موجود في فنّ العمارة العربيّة القديمة كالأقواس الطويلة والقصيرة والعقود والقناطر المضلّعة وخلاف ذلك. لكن ما يعجبني، بل ما يأسرني عموماً في ما وراء هذا الفنّ القوطي، هو تلك الأيدي البارعة المجهولة التي صاغته، فأنطَقت الحجر وصنَعت منه قصائد لا حصر لها من المعاني والتوليفات الإبداعيّة المفتوحة على الزمن. وما علينا الآن سوى أن نُحسن قراءة ما حاكَته تلك الأيدي السرّية. والقراءة هنا تتطلّب بالتأكيد ثقافة ومعرفة عميقة بالشعوب وآدابها ومرويّاتها وعلومها وفنونها التشكيليّة، وعلى رأسها فنّ النحت واستنطاق الحجر.

بعدها انتقلتُ بمحدّثي إلى أجواء أخرى من الكلام، تناولتُ خلالها مشهد الرواية الألمانيّة، سائلاً إيّاه عن أبرز ممثّليها من وجهة نظره. أطرق الرجل قليلاً ثمّ قال: « إجمالاً أنا لا أهتمّ كثيراً بتجارب الروائيّين الألمان، ما يثير فضولي روائيّاً، هُم الكتّاب المميّزون من أُمم أخرى، حتّى ولو كان بعضهم أقلّ تميّزاً من كتّابنا الألمان. والفضول الشخصي له أولويّته عندي هنا ولا أدري لماذا؟». استغربتُ جوابه هذا قائلاً: أما تعني لك شيئا تجربة زميلك الروائي الألماني الكبير توماس مان (نوبل 1929) صاحب «الموت في البندقيّة»؟. أجاب من فوره: توماس مان شاعر في كتابة الرواية أكثر منه روائيّاً. إنّه كاتِب أناقة الموت قبل حدوث الموت نفسه؛ فبطله العجوز غوستاف أشنباخ عندما يغادر برلين إلى البندقية ويلتقي بالمُراهِق الوسيم تادزيو، يعلق على الفور بسحره، فيقتله السحر ببطء شديد، ويستحيل الموت مع أشنباخ نوعاً من الجمال الذي يُطابق الحقيقة.

رائع منك هذا الرسم الرؤيوي الشعري لرواية «الموت في البندقيّة» يا سيّد غراس، وهو دليل على تعلّقك بالرواية وإعجابك بكاتِبها. ثمّ إن وصفك لتوماس مان بأنّه شاعر أكثر منه روائيّاً في سرديّاته، يجيء في مصلحته كمُبدِع أوّلاً وأخيراً من وجهة نظري. اكتفى الروائي الكبير بالتعليق على كلامي بالتساؤل: وهل قلت شيئاً سلبيّاً في حقّ توماس مان؟ (يبتسم). لا طبعاً أجبته وأردفت: ولكنّك أفدت بأنّكَ لا تكترث بالروائيّين الألمان وتفضِّل قراءة غيرهم من كتّاب العالَم، وفي هذا شيء من الغمز بهم وإن بطريقة مُستبطنة أو غير مُباشرة؟ يبتسم أيضاً.. وأتابع كلامي له: ومع ذلك سأبقى في الدائرة الأدبيّة الألمانيّة وأسألك عن الروائي والشاعر الألماني هرمان هيسه، فالمُعجبون به كثرٌ في العالَم العربي، وأنا من بينهم، وخصوصاً روايته «لعبة الكريات الزجاجيّة».. كما قرأتُ له شخصيّاً مُنتخبات شعريّة رائعة نقلها عن الألمانيّة مباشرة فؤاد رفقة، وهو شاعر لبناني صديق.. أجابني غراس باقتضاب: « يعجبني في هيسه تحديثه للماضي استئنافاً للمستقبل. فهو كان من عشّاق القرن الثامن عشر المُكتنِز بالفلسفة الأنواريّة و«بالتصوّف العقلاني» والموسيقى النّاطِقة بهما وبنفسها في المَقام الأوّل. لقد قدَّم هيسه، ولأوّل مرّة في تاريخ الكتابة، رواية تمجيد الموسيقى وتشخيص سمتها، بما هي حركة في الزمن وصديقة للسرد الحكائي».

يخيّل لي يا سيّد غراس أنّ هيسه توصَّل إلى إنتاج كتابة تتجاوز الشعر والنثر والأجناس الأدبيّة كلّها من كلاسيكيّة وحداثيّة وما بعد حداثيّة.. سألته فأجاب: «كلّ كتابة - يا صاحبي - يحدِّد شكلَها القلقُ الذي يعتريها».

  • ينشر بترتيب مع مؤسّسة الفكر العربي