إشراقات

ملاذ الروح وسكينة النفس

20 سبتمبر 2018
20 سبتمبر 2018

يحيى بن سالم الهاشلي/ إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

«الصلاة في حياة المسلم كعبادة لها دور علاجي ووقائي، فهي تعالج نفس المسلم وتصلحها من الأخطاء التي تقع فيها فهذان الدوران العلاجي والوقائي يشكلان ثمرة الصلاة التي يجنيها المسلم في حياته والحصن الذي يحتمي به من نوازع النفس ووساوس الشياطين، وتقوم الصلاة بهذا الدور من خلال تقوية صلة العبد بربه وتذكيره به بشكل متواصل في أغلب أوقات اليوم مما يعزز جانب التقوى ومحاسبة النفس لدى الفرد من ناحية ومن ناحية أخرى يبث السكينة والطمأنينة في النفس بقربها من ربها وكمال الانقياد له وهو ما يميزها عن باقي العبادات».

تعد الصلاة من أبرز ما تتميز به الأديان، فما من ديانة إلا ولها طرائق وطقوساً لأداء صلواتهم، فتكون في بعضها طقوسا شكلية وأذكارا وترانيم صوتية، وعند البعض الآخر قد تنحو منحا متطرفا فتصل لحد إيقاع الأذى بالنفس أو بكائنات حية أخرى أو تكون بطقوس شاقة، وإن هذا التنوع في الصور والأداء ليدلل على كون الصلاة حاجة فطرية تتوق إليها النفس البشرية فيكون فيها ملاذ الروح وسكينة النفس وطمأنينة البال.

لذلك نجد أن الصلاة في الإسلام هي الركن الثاني منه والركن العملي الأول فيه، كما يلحظ من ينظر في آي القرآن مدى العناية بالصلاة كعبادة يتقرب بها إلى الله، فهي أول فرض كلف به موسى عليه السلام بعد توحيد الله (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، كما كانت أول وصية من الله نطق بها عيسى عليه السلام في مهده (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)، كما كانت وصيته لكل الأنبياء (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)، كما أن الصلاة ثاني صفات المتقين بعد الإيمان (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، كما ورد في السنة المطهرة أحاديث تدلل على عظم مكانة الصلاة وفضلها، فقد وردد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوله عن مكانة الصلاة من الدين: (لكل شيء عمود وعمود الدين الصلاة وعمود الصلاة الخشوع وخيركم عند الله أتقاكم) كما ورد في الحديث: (استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، كما ورد في فضلها وخطر تركها قوله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا برهان، ولا نجاة، وحشر يوم القيامة مع فرعون، وهامان، وقارون، وأبي بن خلف)، كما كانت الصلاة آخر وصية أوصى بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أمته وهو بالرمق الأخير وروحه الطاهرة تفارق جسده الشريف إذ قال:(الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).

والصلاة في حياة المسلم كعبادة لها دور علاجي ووقائي، فهي تعالج نفس المسلم وتصلحها من الأخطاء التي تقع فيها يقول الله عز وجل: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، فيوضح النبي صلى الله عليه وسلم دورها العلاجي بقوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء) قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بها الخطايا)، فما أبلغ هذه الصورة الحسية التي ضرب بها المثل لدور الصلاة، إن المسلم وهو يتجه للقاء ربه بالصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ليعرض قلبه ونفسه عليه تبارك وتعالى، فتتجدد التوبة من التفريط في جنب الله، كما أن هذا العرض يعطي النفس مناعة ووقاية من الوقوع في المحظور، فالمسلم الحق يكون ما بين الصلوات معلق القلب بالله فيحاذي بنفسه أن تلج في السبيل المسخط لله قبل تجدد اللقاء به في الصلاة التالية، وهذا الدور الوقائي للصلاة هو المقصود في قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).

فهذان الدوران العلاجي والوقائي يشكلان ثمرة الصلاة التي يجنيها المسلم في حياته والحصن الذي يحتمي به من نوازع النفس ووساوس الشياطين، وتقوم الصلاة بهذا الدور من خلال تقوية صلة العبد بربه وتذكيره به بشكل متواصل في أغلب أوقات اليوم مما يعزز جانب التقوى ومحاسبة النفس لدى الفرد من ناحية ومن ناحية أخرى يبث السكينة والطمأنينة في النفس بقربها من ربها وكمال الانقياد له وهو ما يميزها عن باقي العبادات، ولا يقتصر هذا الدور على الصلوات الخمس المفروضة بل يتعداه إلى النوافل خاصة صلاة قيام الليل فهي وصلاة الفجر فيهما تدريب على ترك المشتهيات والصبر على ذلك من خلال مقاومة الرغبة في النوم، وفي ذلك مران عملي وتهيئة نفسية على الصبر والطاعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، ولكن هل تؤدي الصلاة في واقع حياة المسلمين هذا الدور؟

إن الناظر في واقع المجتمعات المسلمة ليجد غيابا لدور الصلاة في تزكية النفوس وعلاجها، وتحولت الصلاة من عبادة إلى عادة، كما أن مما يؤسف له تخلف الكثير عن أدائها مطلقا والتفريط فيها، فأصبح حالنا كحال من حكى الله تعالى عنهم تقريعا وذما: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، فتضييع الصلاة لا يقصد به تركها فقط بل إن من تضييعها أن تكون قشورا لا أثر لها بإصلاح وصلاح النفوس، وإن بحثنا في الأسباب التي تؤدي إلى ذلك لوجدنا أن الأفراد لا يقيمون الصلاة حق إقامتها ابتداء من شرائطها الأولية إلى أركانها وفرائضها القولية والفعلية، مما ولد استهانة بأدائها ولا مبالاة بإقامتها، فتجد الرجل وقد بلغ من العمر عتيا صلاته لا تفرق عن من كان صبيا، فلا يحسن إسباغ الوضوء ولا يحسن الوقوف بين يدي الله فتراه متلفتا غير ساكن الجوارح معوجا في وقوفه غير متم لركوعه وسجوده، فلا خشوع ولا خضوع ولا تذلل فهي عمل جوارح وحسب لا عمل قلب عندهم وإنما غايتها إسقاط الفرض، ولعلك تعلم من أبواب المساجد حال المصلين داخلها، فمنظر الأحذية المبعثرة أمام الأبواب مع وجود أماكن مخصصة لحفظها فارغة ليعطي أوضح صورة عن مدى التزام صاحبها بالنظام وما الصلاة إلا نظام، وإنما مرد ذلك إلى الجهل بحقيقة الصلاة والجهل بفضلها، فكيف لنا أن نقيم الصلاة حق إقامتها؟.

وورد في السنة المطهرة حديث يعرف بحديث «المسيء صلاته» وفي هذا الحديث وصف لحال كثير من الناس في صلاتهم فقد روي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ. فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - ثَلاثاً – فَقَالَ الرجل: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أُحْسِنُ غَيْرَها، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ معك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً،. وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا)، فهذا النص النبوي يبين أن الطمأنينة في أداء الصلاة مطلب لصحتها والطمأنينة في عمل الجوارح هو السبيل للوصول إلى الخشوع الذي هو روح الصلاة وعمودها، لذا فينبغي على المربين وأولياء الأمور وهم يعلموا أولادهم الصلاة أن يهتموا بتعليمهم إقامة الصلاة الحقة من إسباغ للوضوء ووقار في الحضور للمساجد وسكينة في أداء الفروض، إذ الملاحظ أن الكثير ممن يحضر أبنائه للصلاة يتركهم دون عناية ورعاية فلا يفقه ذلك الابن من أمر الصلاة إلا الوقوف في الصف وأداء حركات الصلاة تقليدا، بل قد يسوء الأمر بلقائه أقرانه والعبث معهم وبذلك يفقد في نفسه هيبة المقام وجلال الموقف وبذلك تكون الصلاة عنده عادة تعودها فلا تثمر تقوى ولا ورعا، لذلك جاء التوجيه النبوي للمربين (علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، فالتعليم يلزم منه الإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بالأداء ليشب الناشئ وهو يصلي صلاة صحيحة تكون ذات تأثير على استقامته، كما يطلب من المسلم التفقه في أحكام الصلاة ليكون أداؤه لها صحيحا، كما أن من إقام الصلاة تقويم اللسان في كلامها خاصة القرآن فإن القراءة الصحيحة للقرآن تسهم في استحضار عظمة المقام بين يدي الله تعالى فيكون حاصله الخشوع والخضوع: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا).

يطلعنا القرآن الكريم على اهتمام بالغ من الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإقامة الصلاة، فقد جعل سبب إسكانه ذريته في واد غير ذي زرع أن يكونوا مقيمين للصلاة، فحري بكل مسلم أن يسلك مسلكه في إقامة الصلاة بنفسه وتوجيه من يعول لإقامتها وأن يلهج لسانه بدعاء إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).