إشراقات

لمن كان له قلب - عاقبة الاستقامة

20 سبتمبر 2018
20 سبتمبر 2018

د. أحمد بن جابر المسكري -

أحييكم أيها القراء الكرام من جديد في هذه السلسلة، وسنتناول موضعا جديدا من كتاب الله العزيز، وهو آيات عاقبة الاستقامة من سورة فصلت، يقول المولى الكريم سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ». والآيات مناسبة لما قبلها، فسياق الآيات الكريمات قبلها كان في وعيد أعداء الله، يقول عزّ وجلّ: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ، وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ»، أما هذه الآيات فهي في سياق الوعد لأولياء الله تعالى، ومن عادة القرآن الكريم الجمع بين الجانبين المهمّين في نفس الإنسان، جانبي الخوف والرّجاء، فهما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن إلى رضوان الله تعالى. ولنبدأ بأسرار قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ»: 1- افتتاح الجملة بحرف التوكيد (إنّ) للرّدّ على إنكار المشركين لذلك. 2- استعمل الاسم الموصول (الذين) ولم يقل مثلا: إنّ المؤمنين، لما في الصّلة من الإيماء إلى أنّها سبب ثبوت المسند للمسند إليه، فيفيد أنّ قولهم {رَبُّنَا اللَّهُ} واستقامتهم هما سبب تنزّل الملائكة عليهم بتلك الكرامة. 3- يفهم من التّعبير بالقول هنا اعترافهم بربوبيّته تعالى، فحقيقة القول هي: النّطق باللسان. 4- ويفهم من ذلك أيضا أنّهم صدعوا بذلك، ولم يخشَوا أحدا بإعلانهم وتصريحهم بالإيمان بالله سبحانه وتعالى. 5- ويفهم من ذلك أيضا أنّ قولهم إنّما هو تصريح بما في اعتقادهم، فما قالوا ذلك إلا عن اعتقاد، وكثيرا ما يراد بالقول معناه المجازيّ وهو الاعتقاد؛ فإنّهم لا يُمدحون بهذا القول وحده، وإنّما يُمدحون باتّصافهم بمضمونه وهو اعتقادهم الإيمان بربوبيّة الله عزّ وجلّ، وإنّما من شأن الإنسان أن يُعبّر عمّا في قرارة نفسه من الاعتقاد، ويمدح ويذمّ على اعتقاد الحقّ أو الباطل ولو لم يصحبه قول. 6- اختيار لفظ (ربّنا) هنا للإشارة إلى اعترافهم بربوبيّة الله تعالى، أي: أنّه عزّ وجلّ مالكهم ومدبّر أمرهم ومربّيهم والمحسن المتفضّل عليهم، وأنّهم عبيد مربوبون بين يديه، وما يقتضيه ذلك من إخلاص العبوديّة شكرا له. 7- قوله: {رَبُّنَا اللَّهُ} يُفيد الحصر بتعريف المسند والمسند إليه، أي: لا ربّ لنا إلا الله، وذلك إقرار منهم بوحدانيّته سبحانه وتعالى.

أما أسرار قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَقَامُوا» فهي: 1- (ثمّ) حرف عطف، يفيد التّراخي أو المهلة، وقد يُراد به هنا التّراخي في الزّمان، لأنّ العمل يأتي بعد الإيمان. 2- وقد يُراد ب (ثمّ) هنا التّراخي في الرّتبة، فإنّ الاستقامة رتبتها أصعب من الإقرار، لأنّها تشمله وتشمل الثّبات عليه والعمل بما يستدعيه. 3- وقد يُراد ب (ثمّ) هنا التّراخي في الرّتبة، فإنّ الإيمان هو أساس العمل ومنشأه، وأيضا فالعمل بدون إيمان يجعله الله هباء منثورا. 4- الاستقامة حقيقتها اللغويّة هي: الاعتدال وعدم الاعوجاج والميل. 5- والهمزة والسّين والتّاء في الاستقامة للمبالغة في التّقوّم. 6- والمراد بالاستقامة هنا معناها الشّرعيّ، وهو: الالتزام والثّبات على الإيمان بالله والعمل الصّالح. وأنت ترى أنّ هذا التّعريف اشتمل على حقيقة الإسلام، لذلك أجاب به سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سفيان الثّقفيّ عندما قال: «يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك»، فقال له عليه الصّلاة والسّلام: «قل آمنت بالله ثمّ استقمْ». 7- ونظراً لأهمّيّتها في الدّين فقد نقل عن بعض عظماء الصّحابة ومن بعدهم بيانهم لحقيقة الاستقامة، وهي لا تخرج عمّا قلناه في التّعريف الشّرعيّ بأركانه الأربعة: الالتزام والثّبات والإيمان بالله والعمل الصّالح، بل هي جزئيات لذلكم المعنى. فعن أبي بكر: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: لم يشركوا بالله شيئا. وعن عمر: استقاموا على الطّريقة لطاعته ثمّ لم يروغوا رَوَغَان الثّعالب. وقال عثمان: ثمّ أخلصوا العمل لله. وعن عليّ وابن عبّاس: ثمّ أدّوا الفرائض. وعن الفضيل بن عياض: الزّهد في الفانية، والرّغبة في الباقية. وإلى اللقاء في الغد بمشيئة المولى سبحانه وتعالى.