أفكار وآراء

المد الرهيب والضحايا

19 سبتمبر 2018
19 سبتمبر 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

هذا المقال ليس اجترارا لذكرى مؤلمة أو رهيبة مضت، لكنه في الأساس تحذير من مخاطر وتحديات اقتصادية ومالية صعبة مقبلة. نتذكر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي اندلعت بقوة في سبتمبر 2008 لاعتقادنا أن الذكرى - بدروسها - تنفع المستثمرين والمقترضين والبنوك المركزية والحكومات والمضاربين!، كما تنفع الطيبين الذين قد تجرفهم مرة أخرى غواية المضاربة، أو اللعب مع الكبار، فيخسروا الجلد والسقط، كما خسر عشرات الملايين في الأزمة الماضية.

في 15 سبتمبر منذ 10 سنوات تم إعلان إشهار إفلاس بنك «ليمان برازرز» الأمريكي رسميا والذي كان قد تأسس في 1850. كان الإعلان بمثابة كشف الغطاء عن بركان نووي مالي تحت السطح اسمه المخاطر المالية العالية أي الإقراض سيء السمعة أو المسموم والتضخيم غير الطبيعي في أسعار الأصول.

ولقد قال وارين بافيت - الملياردير الأمريكي، واصفا حال المؤسسات الكبرى التي انهارت وانكشفت في 2008: «أنت فقط تعرف من الذي كان يسبح عاريا عندما يلقى المد بضحاياه إلى الخارج».

جاء المد إذا وانكشف معه ستر بنوك وشركات وساطة مالية وشركات تأمين وشركات تحوط ضد التقلبات، والأخطر أن البركان دفع في بلد واحد هو أمريكا، إلى أن يفقد كل مواطن أمريكي والى الأبد 70 ألف دولار كمتوسط من ثروته، وجعل 8 ملايين مواطن، يسلمون مفاتيح منازلهم للبنوك الدائنة طوعا أو كرها، ليسكنوا الخوف وأكشاك الكرتون في الشوارع، وامتد الإعصار ليلفح بنيرانه 24 بلدا آخر على الأقل.

أبعد من ذلك فإن كتابات كثيرة تحدثت هذه الأيام عن الأثر الذي تركته الأزمة ولن يغادر، على الأقل في الأمد المنظور، ألا وهو فقدان الثقة في المؤسسات المالية وفى الخبراء والرقباء والمنظمين والحكومات!. كان «لورد كينز»، يقول إن الثقة هي عنصر من عناصر الإنتاج مثلها مثل الأرض ورأس المال والعمل وقد تكون الأهم.

الأسئلة التي تشغل البال تدور حول: ما الذي بقى من تلك الأزمة؟ وهل يمكن أن تعود؟ ومن أي منطقة أو بلد ؟ ولأي سبب؟ كيف نحافظ على التوازن بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الرمزي أو المالي حتى لا نقع في المصيدة ؟ من يتحمل الأخطاء ويدفع ثمنها؟ وما حالنا وحال بنوكنا وقطاعنا العقاري بينما العالم يتحدث عن مخاطر عالية قائمة أو مقبلة في عدة أسواق ناشئة وعن أزمة مديونيات دول وكيانات قد تعيدنا الى مربع الكارثة ؟.

من أخطر الإجابات التي قرأتها وبين عشرات الآراء المهمة أن الدين العالمي للدول المتقدمة زاد كنسبة من الناتج الإجمالي 30 نقطة مئوية، بسبب تداعيات أزمة 2008، وفي مقدمتها تكلفة تعويم بنوك ومؤسسات وشركات، ويبلغ الدين الوطني للولايات المتحدة ذاتها حاليا 21 تريليون دولار. وفي حين قلت ديون الأفراد في دول عديدة وقلت مبالغ الرهن العقاري فإنها زادت في أخرى وانت كانت أقل وزنا وسكانا. إن الديون التي لا يمكن السيطرة عليها هي الشعلة التي تضيء نار كل أزمة. هكذا قال محلل أمريكي متوقعا اندلاع أزمة عالمية جديدة من المناطق أو الدول التي بها ديون عالية وهو يلمح الى الصين بالذات. بيد أن ما يخشاه الجميع اكثر هو تدفق سيولة ضخمة على الولايات المتحدة نتيجة رفع الفائدة (الذي لا تبرره مؤشرات البطالة أو التضخم) مما يدفع باتجاه تسيب مالي آخر وقد ذكرت كريستين لاجارد في مقال لها بموقع صندوق النقد حول الذكرى الأليمة: «إننا نواجه اليوم تصدعات جديدة بعد الأزمة - من التراجع المحتمل عن إجراءات التنظيم المالي، إلى تداعيات عدم المساواة المفرط، إلى الحمائية والسياسات المنغلقة، إلى الاختلالات العالمية المتصاعدة. وستكون كيفية مواجهتنا لهذه التحديات هي ما يثبت استيعابنا لدروس «ليمان براذرز».

الطريف أن كاتبا في «واشنطن بوست» أكد منذ أيام أن «وول ستريت» لم تتعلم شيئا؛ لأنها لم تدفع ثمن ما ارتكبته من أخطاء وقال الكاتب وهو فيل أنجيليديس، إن

«المفارقة الكبرى في الانهيار المالي في عام 2008 هو أن وول ستريت،- حي المال الأمريكي - الذي دفعت مجازفته المتهورة النظام المالي الى ما فوق الهاوية، عانت من عواقب قليلة جداً، أوربما لم تعان، جراء أعمالها التي كلفت الملايين من الناس وظائفهم ومنازلهم، ودمرت المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد، وجردت تريليونات الدولارات من ثروات الأسر من الطبقة الوسطى. لكن البنوك الكبرى المسؤولة تخطت أي ضرر، ولم تدفع أي ثمن اقتصادي أو قانوني أو سياسي حقيقي لسوء سلوكها».

وثمة بعد آخر ظهر في الكتابات المعمقة هذه السنة عن الأزمة وهو انه مع كل أزمة مصرفية أو أزمة عملة أو أزمة ديون، تنخفض حصة الوسطيين أو المعتدلين في أي بلد، في حين ترتفع حصة المتطرفين من الجناح اليميني أو اليساري في معظم الحالات وهذا يفسر جانبا من ظاهرة ترامب.

ما يخيفنا أيضا وورد كذلك في الكثير من التحليلات أن قانون «دود- فرانك» الذي صدر عن الكونجرس عام 2010 كان محاولة لجعل البنوك والمؤسسات المالية أكثر قوة وأفضل تصرفًا وحوكمة وكان واكبه إنشاء لجنة لحماية المستهلكين في المركزي الأمريكي. المخيف أن ترامب يسعى الى إزالة هذه «العقبات» - بلغته - أي الإصلاحات حاليا . أي أننا قد نكون بصدد دورة جديدة من الدى ريجليوليشن - تخفيف القيود الرقابية - التي تمت في عهد ريجان وتاتشر وقادت الى أزمة 2008.

لا تتعظ بيوت المال وجماعات الضغط المالية من أن يصبح كتاب توماس بيكيتى «الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين» - اكثر من 800 صفحة - الأعلى مبيعا في العالم عام إصداره، وكونه انعكاس لحدة الشعور بالتفاوت في الثروات الذي تكشف خلال الأزمة وتفاقم بعدها.

معروف أن بيكيتي رصد في كتابه استمرار تزايد نصيب ما يملكه أغنى أغنياء العالم من إجمالي الثروة العالمية باستثناء أوقات الحربين العالمية الأولى والثانية.

قال: «لولا دا سيلفا» -رئيس البرازيل وقت الأزمة - تعليقا على خطة الإنقاذ الأمريكية أن على أمريكا أن تتحمل مسؤولية الأزمة المالية الحالية لأنه ليس من العدل أن تدفع دول العالم ثمن قرارات وأخطاء القطاع المالي الأمريكي.

يجب أن نتذكر أن اقتصاديين غربيين معارضين لخطة الإنقاذ الحكومي الأمريكية كانوا قد اطلقوا تعبيرا جديدا- لأول مرة - هو «عمعمة الخسائر وخصخصة المكاسب» أي ترك الذين ربحوا دون حق من بنوك ومديري وشركات وساطة ورهن وتحوط، دون حساب وتحميل دافع الضرائب الثمن وقد طالب نواب ومفكرون أمريكيون وقتها بأن يتم ترك وول ستريت تصلح نفسها أو منح المساعدات الحكومية للمضارين من أصحاب المساكن المطرودين للعجز عن سداد الأقساط. هذا النوع من الرؤى يجب أن يظل في ذاكرة الجميع. المدهش أن بوش الابن نفسه كان يطالب في ذروة الأزمة بإشهار إفلاس عملاق التأمين «ايه اى جى» أيضا مع «ليمان برازرز» كرسالة للسوق بأن لا تسامح مع المخطئ غير أن وزارة الخزانة وأطراف أخرى قدرت أن حجم تشابكاتها مع النشاط الاقتصادي من الضخامة بمكان بحيث يجب عدم تفليسها. وقد ظهر في تلك الفترة تعبير (أكبر من أن يفشل أو يتم إسقاطه). الأدهى انه كان هناك من يرى ضرورة تعويم ليمان برازرز هو الآخر غير أن بوش قال بحسم نادر - بتأثير نصائح آخرين - انه يجب توجيه عقاب حتى لا يستسهل سوق المال الانجراف الى الأخطاء مرة أخرى.

هناك ألف سبب لكي لا ننسى أزمة 2008 وأهمها الآن أننا نخشى أن يتكرر الدمار وأن نرى ملايين الناس سكارى وما هم بسكارى من هول الصدمة.