أفكار وآراء

التنمية المهنية للأكاديميين بمؤسسات التعليم العالي ضرورة ملحة !

18 سبتمبر 2018
18 سبتمبر 2018

د. عبدالله بن سليمان بن عبدالله المفرجي -

يراد بالإنماء المهني الحلقات الدراسية والنشاطات التدريسية التي يشارك فيها المعلم بهدف صقل معارفه وتطوير قدراته ورفع كفايته وإكسابه مهارات حل المشكلات التي تواجهه في الحقل التربوي وتدريبه على توظيف التقنيات الحديثة في المواقف التعليمية المختلفة.

التعليم من أكثر المهن نُبلاً، فالمعلم الناجح يفتح أمام طلابه المستقبل المشرق، ويجعل أهدافهم سهلة المنال، فالمعلم أحد أقطاب العملية التربوية الفعالة ويمثل أحد أعمدة التعليم الناجح، ولكنه في العصر الرقمي ليس المصدر الوحيد للمعرفة كما كان من قبل ويختلف دوره في مؤسسات التعليم العالي عن دوره في التعليم العام، فقد أصبح المعلمون الأكفاء ضرورة ملحة لتطوير التعليم، من هنا كان لا بد من تعزيز المعلم بمهارات القرن الحادي والعشرين، والتركيز على تطوير أساليب التفاعل بين كل من المعلم والمتعلم والانتقال من دور المعلم الملقن للمعلومة إلى التعليم التفاعلي والذي يجعل المتعلم محور العلمية التعليمية.

وتؤكد مجموعة من الدراسات أن أهم عامل في نجاح منظومة التعليم في المدراس هو المعلم، وأن المعلم المتمكن الفعال يؤثر على تحصيل الطالب بمقدار ٣ إلى أربعة أضعاف معلم آخر ضعيف غير فعال، وأن التأثير التراكمي على مدى ثلاثة أعوام يعادل ٣٧% مع المعلم غير الفعال، مقارنة بـ٩٠% مع المعلم الفعال، وقد صور ذلك الفيلم الوثائقي الأمريكي في انتظار سوبر مان (٢٠١٠) والذي يصف حال التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية وينتقده بشدة، وبذلك أصبح إيجاد المعلم الفعال وكيفية رفع مستوى ملايين المدرسين هو التحدي الكبير الذي يواجه المنظومة التعلمية. وهنا يجب علينا قراءة الوضع الحالي بمؤسسات التعليم العالي وإعادة التفكير الجاد في تقديم برامج تدريبية تجعل المعلم قادرا على بناء بيئة تعلمية جاذبة للطالب وداعمة لعملية التعلم وتزيد شغفه بتعزيز مهارة فهم المتعلمين واستغلال ميولهم وقدراتهم وإشراكهم في أنشطة تفاعلية تحفزهم على التعلم. فالتدريب المستمر عملية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لتحسين الأداء وتلبية احتياجات التطور للوقوف على أحدث طرق التدريس وتكنولوجيا التعليم وكيفية توظيفها في الحقل التربوي.

ولعل البعض يتساءل عن مبررات برامج إنمائي للأكاديميين والذين يعتبرون قمة في سلم التعليم الأكاديمي العالي، في حين أن المتأمل في الواقع العملي يجد أن أغلب المدرسين في السلك التعليمي الأكاديمي من غير حملة الشهادات التربوية بحاجة ماسة إلى التأهيل التربوي، وحتى الذين تم تدريبهم على مهارات التدريس واستراتيجياته، فهم في بحاجة ماسة للإنماء المهني والتي تعتبر عملية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لتحسين الأداء وتلبية حاجات التطوير المستمر، الأمر الذي يؤدي إلى نمو الخبرة المهنية وتزايد الكفايات الأدائية للمعلم للارتقاء بالمنظومة التعليمية، والأمر الذي يفرض علينا لذلك وجود عدد من المبرات منها:

أ- ضعف ملحوظ في مخرجات التعليم، والذي كان من المأمول أن يكون الإرشاد الأكاديمي خلال فترة الدراسة هو طوق النجاة لتجاوزها، فمن خلال القراءة المتعمقة للواقع العملي نجد خللا في المستوى العلمي الذي تحصله المتعلم في مدة دراسته الجامعية، بسبب عدم فعالية التعليم، فاستنتجنا أن عدداً منهم قد أخفق في القدرة على التفكير الإبداعي وعلى حل المشكلات وممارسة المنهجية العلمية في البحث، وتوظيف ما تعلمه على أرض الواقع ومواصلة تعلمه مدى الحياة. في حين قد انفق على الطالب لمدة أربع أو خمس سنوات أمولا طائلة وتجهيزات وموارد بشرية وغير بشرية، وفي الجانب المقابل نجده غير قادر على إلقاء كلمة قصيرة أمام الجمهور أو على كتابة تقرير قصير حول موضوع ما، أو قد اخفق في حل مشكلة الأمر الذي ينتهي به إلى رفض المؤسسات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية ...الخ توظيفه، لأنه غير قادر على الابتكار والإبداع وإسقاط المعارف والعلوم التي اكتسبها من الجامعة في الواقع العملي المعيش. وهذا الواقع قد ازداد تعقيداً في الفترة الأخيرة نظرا لتدفق طلبات تعليمية لإنشاء مؤسسات تعليم عال أو تخصصات جديدة قوبلت باستجابات غير مدروسة بتمعن أحيانا، الأمر الذي أدى لوقوع مؤسسات تعليم عال تحت الملاحظة الأكاديمية لسنوات عديدة (د. سيف المعمري، مقال: مؤسسات في التعليم العالي «تحت الملاحظة»: جريدة الرؤية العمانية، 09/‏‏6/‏‏2018م)

ب-غلبة الطابع التقليدي (طابع التلقين) على التعليم بالرغم من التطور والانفجار المعرفي في شتى ميادين المعرفة، ففي عصرنا الحالي أضحت طريقة المحاضرة الملقاة بطريقة التلقين مرفوضة، ولا مبرر لوجودها في عصر التطور التقني، والانفجار المعرفي، كما أنها باتت غير مقبولة لدى الطلبة، والسلوك المرغوب أصبح يناشد الأستاذ في محاضرته أن يقدمها على شكل حوار بينه وبين طلابه، ويقوم بعرض عناصر المقرر على شكل أسئلة بما ينمي لدى المتعلم التفكير الإبداعي أو مهارات التفكير ما وراء المعرفة، فالمعلم الفعال النشط بات دوره في التعليم الحديث مرشدا وموجها للعملية التعلمية ودوره توعية المتعلم من خلال التفسير والقياس والتحليل والاستنباط...الخ.

ج- سيادة استراتيجية الكم على الكيف لدى كل من المعلم والمتعلم. وعدم الجدية والالتزام في مواصلة حلقة التعليم عند المعلم والمتعلم أحيانا، وذلك بسبب العزوف عن القراءة والتطوير المستمر للمهارات والمعارف.

هـ- ضعف في توظيف الوسائل والتقنيات التعليمية في المواقف التعليمية في المؤسسات التعلمية أما لعدم القناعة بدورها الفاعل في رفع مستوى التحصيل والدافعية لدى المتعلمين وإضفاء التشويق والمرح والمتعة في البيئة الصفية، أو لعدم إلمام المعلم بعملية استخدامها وتوظيفها في المواقف التعليمية المختلفة بما يحقق الأهداف المرسومة سلفا، ويسهل على المتعلم الفهم والاستيعاب للمعلومة بكل يسر ومرونة، ويساهم على حفظها في الذاكرة طويلة الأمد. وهذا ما تؤكده عدد من الأبحاث والدراسات الحديثة والقديمة، وقد توصلت دراسة محمد عطية خميس (1997): الى «إن التكنولوجيا تساعد على جذب انتباه المتعلم وتركيزه وتحفيزه نحو التعلم، وتسهل عملية الاستذكار والفهم وتنمي الخيال وتوفر وقتا مناسبا للتعلم، ناهيك عن تعزيزها للخبرات السابقة لدى المتعلم». كما أشارت دراسة العجمي (2006) لوجود ضعف ملحوظ في مهارات استخدام الكمبيوتر في عملية التعليم، وأكدت دراسة العمري (2008) إلى أن 26% من المدرسين يستعملون الإنترنت والكمبيوتر في تخطيط الدروس المدرسية، و15% يستعملونه في تنفيذ الدروس، وهذه النتائج تتطلب ضرورة الإنماء المهني للمعلم والاستفادة من التجارب المحلية والإقليمية والعالمية الناجحة، ومدى جسور التواصل والتعاون.

وفي هذا الصدد قد يسأل أحد عن المخرج من هذا الوضع وهنا نقف على مجموعات من المقترحات لتطوير العمل والارتقاء به نحو الأفضل فيما يخص الإنماء المهني للمعلمين وهي كالتالي:

١- اختيار مدربين من ذوي الخبرة لنقل المهارات والمستجدات الحديثة المعززة بالتكنولوجيا التعليمية. فكم نتفاجأ في بعض الأحيان حين نحضر دورات وبرامج تدريبية نكون كمتدربين على معرفة ودراية بالموضوع أكثر من المحاضر نفسه، وأحيانا نشارك في استعراض قراءة صفحات البوربوينت وتمريرها بسرعة كبيرة للانتهاء من البرنامج وأخذ صور تذكارية لنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وضمها في إحصائيات الإنجازات التدريبية السنوية للمنظمة التعليمية، والواقع طبعا الصور لن تتكلم بما حدث فعلا.

٢- إنشاء قسم بالمؤسسة التعليمية يعنى بالتدريب وتقيم العائد التدريبي وسوف يكون معنيا بمتابعة البرامج التدريبية قبل وأثناء وبعد التنفيذ للتأكد من جدوها ومبررات تقديمها والفئة المستهدفة وتحديد الحاجة الفعلية لبرامج الإنماء المهني للمعلمين. على أن يتم تصميم برامج التنمية المهنية بمشاركة المعلمين فهم شركاء في صياغة محاورها ومجالاتها، فقراءة الواقع التعليمي ينبع من قناعاتهم وقدرتهم على رصد مكامن النقص والخل والورش التقليدية تفشل في هذا الأمر.

٣- تفعيل الممارسات العكسية من أجل الاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين وتبادل الأفكار والعمل التعاوني، وذلك عن طريق إعداد جدول لتبادل الزيارات الميدانية في الفصول بين أعضاء الهيئة التدريسية وتنفيذه، مع بث روح الود والتعاون بين المعلمين وخلق جو تربوي هادئ، مما يساعد على تنفيذ الأعمال بدقة وإتقان وتعاون مستمر.

٤-نشر محاضرات المحاضرين المتميزين بين الأقران ليتم الاستفادة منها ومن طرق التدريس الحديثة المعززة بالتكنولوجيا. كما تم تطبيقه في كندا في فترة من الفترات .

٥- تصميم منتدى نقاش بين المعلمين عبر بوابة المؤسسة التعليمية أو أستخدم أدوات التواصل الاجتماعية كالواتسب أو الفيس بوك أو توتير أو سناب شات ...الخ لتبادل الخبرات والتجارب الحية والمعارف. فلا بد من جمع الشمل ورأب الصدع واتفاق الكلمة الطيبة وتحقيق الانتماء نحو المنظمة.

٥- العمل على تعيين المحاضرين المتفرغين المؤهلين للتعليم بمعية المحاضرين الزائرين المتميزين وتزويدهم ببرامج الإنماء المهني المستمر ورفدهم بأحدث طرق التدريس الحديثة والفعالة. فلا بد من تعزيز مهنة التدريس وإنصاف المعلم أيضا.

٦-تحديد مستويات المحاضرين المعرفية لوضع خطة محكمة تلبي احتياجاتهم المهنية وتسد مكامن القصور فهي بمثابة حجر الأساس للتطوير المنظومة التعليمية.

٧- تحديد أهداف وموضوعات البرنامج التدريبي بطريقة منظمة وعلمية ترقى بالمعلم، وترتب البرامج التدريبية بحسب الأولويات وفقاً للاحتياجات المهنية للمعلم.

٨- تجهيز مكان التدريب بالمستلزمات التدريبية الحديثة.

٩- التقويم الدوري لما تم إنجازه على أرض الواقع لمعرفة مواطن القوة وتطويرها ومواضع الضعف وتحسينها وتجاوزها. فلا تطوير بدون تقويم فعال مستمر.

١٠- فتح منصة تعلمية إلكترونية عبر الفصول الافتراضية لتدريب المحاضرين على مدار الفصل الدراسي وتزويدهم بالتعليمات والكفايات المهنية للمعلم. فيما يخص طرق التدريس واستراتيجياته ونظريات التعلم والتعليم، وتوظيف التكنولوجيا في المواقف التعليمية؛ مواكبة لروح العصر.

وفي ضوء ما سبق يمكن القول أنه لا بد من إرساء شراكة فعلية بين المؤسسات البحثية والأكاديميين ليتم الاستفادة من مخرجات الأبحاث العلمية وتوصياتها وتوظيفها في الحقل التربوي، فالممارسة البحثية تؤدي إلى تطوير الكفايات التدريسية، وتساهم في تطوير مستويات المتعلمين والمعلمين، لأنها تقوم في الغالب على الجرأة في التجريب، وكذلك لا بد من الاستفادة من التجارب الأجنبية والتي لها فضل السبق، وذلك بترجمة الأبحاث والدراسات المميزة وجعلها في متناول المعلم للاستفادة منها توظيفها في الميدان. وكما لا بد من غرس ثقافة تدريب المعلمين على التنمية الذاتية بالقراءة والبحث والاطلاع على أحداث الدراسات العربية والأجنبية فيما يخصص المناهج وطرق التدريس وتكنولوجيا التعليم، ومن الأفضل هنا أن نضع في الحسبان التقنيات الحديثة التي تساعد المعلم على تحصيل المعارف والعلوم من منابع أخرى كالمنصات التعليمية ومحركات البحث ومنتديات النقاش مع ذوي الخبرات من جميع أقطاب العالم والمواقع التربوية عبر الإنترنت بغية الاستفادة من الخبرات الناجحة في مجال التعليم وتوظيفها على أرض الواقع. فانتقال التعليم العالي من تعليم تقليدي إلى تعليم عال تفاعلي ونشط يعكس متطلبات عصر العولمة والثورة التكنولوجية المتسارعة، الأمر الذي يستوجب علينا تجديد النظم التعلمية وتجديد أشكال التعليم ووسائله وطرائقه المختلفة، وتحديث خطط الدراسة ومناهجها المتنوعة، للوصول إلى ربط المتعلم بالواقع العلمي وتنمية مهارات التفكير الإبداعي لديه وحثه على المناقشة والحوار الهادف والتفاعل مع بيئته بشكل فعال.