907543
907543
إشراقات

الفتاوى لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة

13 سبتمبر 2018
13 سبتمبر 2018

الله تعالى أراد بالهجرة أن تتربى الأمة على الخيروالتضحية والوئام والمودة -

هل كانت الهجرة أمرا ربانيا أو كانت بدافع وجود متنفس للدعوة الإسلامية بعد أن ضاقت في مكة المكرمة؟

الهجرة لم تكن اجتهادا من الرسول عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وإنما كانت هذه الهجرة أمرا من قِبل الله سبحانه وتعالى، أراد الله تعالى به أن تتربى هذه الأمة على الخير، أراد أن يربيها على التضحية، وأن يربيها على الوئام والمودة، وأن يربيها على الاستعلاء عن كل الجواذب إلى الأرض بحيث ترتفع إلى قيم السماء هكذا كانت الهجرة.

وهيأ الله سبحانه وتعالى الظروف التي دفعت المسلمين إلى الهجرة مع كونه أمرهم بها عندما وقعت هذه الظروف، وتم ذلك على يدي الرسول صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين فأنشئت الدولة الإسلامية في ظل هذه الهجرة النبوية إذ كانت المدينة المنورة هي مركز هذه الدولة الناشئة الجديدة ومنها انطلقت إلى أرجاء الأرض.

هل يُعتبر السفر لطلب العلم أو السفر للدعوة تطبيقا عمليا للهجرة؟

هذا مما يعد خروجا إلى الله تبارك وتعالى، لو خرج إنسان من بلد إلى بلد لأجل طلب العلم لا يُعدّ ذلك سفرا دنيويا، وإنما يُعدّ ذلك من باب أن يخرج الإنسان من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله، وقد قال تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء: من الآية100)، فمن خرج مهاجرا إلى الله وأدركه الموت في طريقه فعلى أي حال أجره على الله تبارك وتعالى أجر كبير، معنى هذا أنه يُثاب ثواب الهجرة إلى الله بقدر إخلاص نيته وبقدر صفاء طويته، وما يضمره ما بين حنايا ضميره.

وكذلك من خرج من أجل أن يدعو إلى الله ويبصّر الناس بالحق ويذكرهم به ويعلمهم أمر دينهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فهذه هجرة إلى الله.

ما رأيكم في العتاب الذي يُوجّه بشدة إلى من لا يعتني بالعام الهجري وأشهره؛ لأن مجريات يومه وشهره وعامه تقاس بالتوقيت الميلادي فهو لا يجد في حياته أو في حركته اليومية ما يربطه بالشهر الهجري، فهل مثل هذا العتاب في محله على من لا يعتني بالتاريخ الهجري؟

بطبيعة الحال أولا علينا أن ندرك أن كل أمة لا تعتز بتاريخها هي أمة ضائعة، فمن لم يكن له ماضٍ فليس له حاضر. والحاضر إنما يُبنى على الماضي، وأي ماض أولى بأن يبنى عليه الحاضر من الماضي الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي عهد المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.

على أن التاريخ الآخر كان موجودا من قبل ولم يكن المسلمون في عمى من أمرهم بحيث ما كانوا عارفين به، إذ كانوا على اتصال بدولة الروم وكانوا يعرفون هذا التاريخ، ولكن مع ذلك ما عوّلوا على التاريخ الآخر، وإنما عوّلوا على التاريخ الهجري، وارتبطوا بهذا التاريخ الهجري.

وبجانب هذا فإن هنالك اختلافا ما بين التاريخين في مدارهما؛ ذلك لأن التاريخ الميلادي إنما يدون بدوران الأشهر الشمسية، والتاريخ الهجري يدور بدوران الأشهر القمرية.

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن الأشهر القمرية هي مدار الأحكام الشرعية، فقد قال تعالى (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ) (البقرة: من الآية189)، ثم بجانب ذلك بيّن سبحانه وتعالى ارتباط هذه الأشهر أي القمرية بصميم الدين الحنيف في قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة: من الآية36)، فجعل هذا من صميم الدين القيم، مع أن الأشهر الحرم لا توجد إلا في الأشهر القمرية.

كذلك نجد أن الأحكام الشرعية كلها تناط بهذه الأشهر القمرية، فالحج إنما يكون بالشهور القمرية، وكذلك عِدَد النساء إنما هي بالشهور القمرية، والصيام إنما هو بشهر من الشهور القمرية، والزكاة يجب دفعها بدوران اثني عشر شهرا من الأشهر القمرية، وكذلك بالنسبة إلى بقية الأحكام جميعا.

فلماذا إذن يُعرض المسلمون عن التمسك بهذا التاريخ الذي كان به ميلاد أمتهم، وكان به ميلاد دولتهم، وكان به ميلاد جماعتهم، ويستمسكون بالآخر.

ونحن نجد أن الصحابة فمن بعدهم إلى مضي ثلاثة عشر قرنا كانوا مُجمعين على التاريخ الهجري، فإذن معنى هذا أن الخَلَف عليه أن يحذو حذو السلف، فلماذا يعرض السلف عن منهاج السلف، وقد كان هذا منهاج السلف الصالح.

فإذن العتاب موجه إلى الأمة من هذه الناحية ولا سيما الأفراد، فإن الإنسان يستطيع أن يؤرخ قضاياه بالتاريخ الهجري لا سيما تراجم العلماء، فما الداعي لأن تكون تراجم العلماء بالتاريخ الآخر مع أنه يُعرف التاريخ الهجري، ونحن نجد حتى العلماء الماضين عندما يُؤرَخ لهم الآن ويُترجَم لهم يحاولون أن يحوروا التاريخ ليتلاءم مع التاريخ الآخر غير التاريخ الهجري، وأولئك العلماء مضوا ولا يُعرف عندهم إلا التاريخ الهجري، فما الداعي إلى ذلك!.

إن هذه هزيمة نفسية، وهذه انتكاسة والعياذ بالله، فعلى الأمة أن تنتشل نفسها من هذه الانتكاسة.

هناك من يتفاعل مع هذا الحدث العظيم فيراه مناسبة دينية؛ ولذلك قد تتوق نفسه إلى صيام اليوم الأول من مطلع السنة الهجرية، فما حكم صيام هذا اليوم؟

على أي حال صيامه كصيام بقية الأيام، لا يُمنع أن يصوم الإنسان أول يوم من أيام السنة كما يصوم أي يوم من الأيام التي لا يمنع الصيام فيها؛ إذ ليس هنالك مانع من صيام هذا اليوم كالمانع من صيام العيدين، أو المانع من صيام أيام التشريق، أو المانع من إفراد يوم الجمعة وحده بالصيام كما جاء ذلك في الحديث، وهذا مما لم يكن في صيام أول يوم من أيام الهجرة، ولكن لم ترد سنة أيضا بتخصيصه بالصيام، فهذا مما لم ترد به سنة، فلذلك نحن نود من الناس أن يصوموا وفق مقتضيات السنة، فمما ينبغي للناس أن يصوموا اليوم التاسع والعاشر من المحرم، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم صام يوم عاشوراء وحضّ على صيامه، وقال (لئن بقيت لأصومن التاسع والعاشر إن شاء الله) فتطبيق ما كان حريصا عليه صلوات الله وسلامه عليه مما ينبغي ألا يفوت المسلم.