980328
980328
إشراقات

أحداث إسلامية مشرقة ترصدها روزنامة التاريخ لشهر الله المحرم

13 سبتمبر 2018
13 سبتمبر 2018

الحصار اختبار الصبر والنصر -

يحيى بن سالم الهاشلي -

إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

«الفطرة الإنسانية إذا تجردت من نوازع الشهوة وجد فيها الخير وتجسد هذا الأمر في حادثة قطيعة قريش لبني هاشم، إن بني هاشم وبني المطلب مسلمهم وكافرهم وقفوا بوجه قريش وانضموا للمسلمين في شِعب أبي طالب فعانوا ما عاناه المسلمون وأبناؤهم من جوع ونصب وقطيعة اجتماعية حمية قبلية ونصرة للعدالة وإن كانوا لم يؤمنوا بالإسلام، وهنا درس بليغ لما نعيشه في واقعنا من اصطفاف مؤسف لبعض الدول المسلمة مع المتسلطين في حصارهم ومقاطعتهم الشعوب المقهورة سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة مما يجعلهم شركاء في الجرم والأصل فيهم أن يكونوا أعوان العدل».

إن في أحداث التاريخ من العبر والعظات ما يسترشد به الناس في عيش حاضرهم والاستعداد لمستقبلهم، وإن في تاريخ أمة الإسلام والأحداث الواقعة في قرونه الأولى منارا للمسلمين وعظات لهم في حياتهم، وكحال الدهر في التقلب بين اليسر والعسر والرخاء والشدة عاش الرعيل الأول من الصحابة حياتهم في ابتلاء الصبر عند المحن واختبار الشكر عند النعم، وإن من أعظم المحن التي عاشها الصحابة هذه الأمة وكان فيها ابتلاء صبر عظيم ما عرف في كتب السيرة والتاريخ بحصار شعب أبي طالب ومقاطعة قريش للمسلمين اجتماعيا واقتصاديا الذي وقع في شهر محرم من العام السابع للبعثة.

لقد اتخذ عداء قريش لدعوة الإسلام أنماطا مختلفة متدرجا في التشدد في العداوة والحقد مقابل كل نجاح يحققه الإسلام، فبعد أن أعياهم مقارعة الحجة بالحجة واتخذوا الاستهزاء والسخرية والهمز واللمز سبيلا للمواجهة، والاستقواء على الضعفاء بالقهر والتعذيب، فلم تفلح سبلهم في طمس نور الإسلام والوقوف أمام رياح دعوة التغيير التي بدأت تقوى في محيطهم وتجذب إليها الأباعد والأقارب من القبائل مما دفع قريشا للبحث عن طريقة أكثر ظلما وجرما لإيقافها فعمدوا إلى المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية وفرض العقاب الجماعي على المسلمين ومن يناصرهم ويتعاطف معهم ليكون في ذلك إلحاق الأذى يشمل الصغير والكبير والرجال والنساء، فاجتمع أكابر المجرمين وتعاقدوا بينهم وكتبوا صحيفة الجور والظلم، فكانت بنودها «أن لا يزوّجونهم ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، فلا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل»، وتقاسموا بآلهتهم على الوفاء وعلقوها في جوف الكعبة ظلما وعدوانا كل ذلك في البلد الحرام وفي شهر محرم الحرام، فكل هذه الاعتبارات لم تحرك ساكنا في تلك القلوب الظالمة، وكان هذا الانتقام الغاشم ليس مقابل قتال أو أعمال عدائية قام بها المسلمون بل هو رد على حرية الفكر والاعتقاد وصد عن سبيل الرشاد، وإن الناظر في أحوال العالم اليوم ليجد أن سلاح الحصار والمقاطعة دائم الحضور في يد المتسلطين فيقطعوا الأرزاق عن شعوب بأسرها ويحاصروها بغية إخضاعها والتحكم في قرارتها ومصائرها امتدادا للجاهلية الأولى.

إن الفطرة الإنسانية إذا تجردت من نوازع الشهوة وجد فيها الخير وتجسد هذا الأمر في حادثة قطيعة قريش لبني هاشم أن بني هاشم وبني المطلب مسلمهم وكافرهم - إلا أبا لهب - وقفوا بوجه قريش وانضموا للمسلمين في شعب أبي طالب فعانوا ما عانه المسلمون وأبناؤهم من جوع ونصب وقطيعة اجتماعية حمية قبلية ونصرة للعدالة وإن كانوا لم يؤمنوا بالإسلام، وهنا درس بليغ لما نعيشه في واقعنا من اصطفاف مؤسف لبعض الدول المسلمة مع المتسلطين في حصارهم ومقاطعتهم الشعوب المقهورة سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة مما يجعلهم شركاء في الجرم والأصل فيهم أن يكونوا أعوان العدل.

واستمر الحصار والقطيعة ثلاث سنوات أكل فيها المسلمون ومن معهم أوراق الشجر وجلود الحيوانات الميتة، فيحكي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه خرج ذات ليلة فتبول على جلد حيوان وعندما رآه أخذه وغسله ثم أكله، إن مثل هذا العمل قد يستقذر في حال السعة والرفاهية ولكن هذه الحادثة إنما هي مثال على شدة ما عانى المسلمون في ذلك الحصار، فقد كان يخرج الرجل ليشتري الطعام لأهله وعياله فلا يبيعه أحد من تجار مكة وإن قصد غيرهم من التجار تدخل المشركون في البيع وزادوا في السعر حتى لا يستطيع الشراء فيرجع خالي الوفاض إلى عياله وهم يتضورون جوعا، وكان صياح الأطفال والنساء الجوعى يسمع في بلد البيت الذي من الله على أهله بأن أطعمهم من جوع، ولعل أناسا من قريش بهم بقية باقية من خير كهشام بن عمرو وحكيم بن حزام ابن أخت السيدة خديجة رضي الله عنها، رقت قلوبهم لهذا الوضع المحزن فيأتي أحدهم سرا براحلة وقد حملها بالطعام فيوصلها للمحاصرين نجدة ولو يسيرة تذكرنا بحال بعض الشعوب الحرة التي تسعى لكسر حصار الظالمين على الشعوب المظلومة ولو بأعمال صغيرة كإرسال شحنات من غذاء ودواء فإنها وإن كانت بأثر محدود في رفع المعاناة إلا أنها تعطي المحاصرين بارقة أمل بوقوف أحد معهم وبعدالة قضيتهم مما يعطيهم الدافع للصمود، كما أنها توجه رسالة للمتسلط بالحصار أن هناك من يقف في وجه ظلمه وعدوانه وبمرور الأيام ستكبر هذه المعارضة حتى يسقط حصاره وظلمه، وهذا ما كان في أمر حصار المسلمين في شعب أبي طالب فمع استمرار قطيعة قريش الظالمة وحصارهم الغاشم، فلما أراد الله رفع هذا الابتلاء عن عباده حرك قلوب بعضا من خيار قريش، إذ لم يطق هشام بن عمرو استمرار هذا الظلم - وكان ممن يساعد بني هاشم سرا - فكان من خبره أن ذهب لزهير بن أمية وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه، واستثارة لنزعة الكرامة عنده قال له: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وتنكح النساء وأخوالك حيث تعلم؟!، ثم بعد ذلك يضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل قائد الحصار فيقول: أما إني فأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام (يعني أبا جهل)، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا، فاستجاب زهير لدعوة هشام وطلب منه أن يبتغي أعوانا للمساعدة فالقيام في مواجهة هذه القطيعة ليس بالأمر الهين إذ القوم تعاقدوا عليها وعلقوها في جوف الكعبة إعظاما لاتفاقهم، فسعى هشام بين من يرجو منهم إجابة لدعوته والقيام معه فاجتمع إليه وزهير كل من المطعم بن عدي و أبي البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، فتعاقد الخمسة على نقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، هونا قام له أبو جهل زعيم الحصار فقال: كذبت، والله لا تشق، ثم تتابع في الرد على أبي جهل الأربعة الآخرون مظهرين تأييدهم لكلام زهير، وعندها وجد أبو جهل نفسه محاصرًا بآراء خمسة من الرجال، حينها أدرك أن هذا لم يكن قدرًا ولا مصادفة بل أمر قُضِي بليل. فحدث صدع في قريش واختلاف في الرأي بينهم وتنازع، وفي خضم النقاش والنزاع يأتي الوحي الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الصحيفة قد سلط عليها الأرضة وقد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله سبحانه وتعالى. وبنبأ الأرضة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، فما كان منه إلا أن ذهب إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل وتدخل أبو طالب وأخبرهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم عما حل بالصحيفة وقال: فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا. فقال زعماء قريش: قد أنصفت يا أبا طالب. وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تمامًا كما جاء الوحي أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله سبحانه وتعالى: «باسمك اللهم»، ظلت آية واضحة لرفع الظلم والجور، وهنا لم يعدْ أمام زعماء مكة أي خيار، فلم يجدوا بدًّا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع هلك فيها من هلك وعانى المسلمون ومن معهم من جوع وقطيعة رحم.

وخرج المسلمون من رحم هذه المعاناة وهذا الابتلاء وقد تزودوا باليقين والصبر، فسندان الابتلاء هو الذي ينقي الإيمان ويقويه في النفوس فإن ما ينتظر هذه الفئة المؤمنة من تحمل لأمانة الدين وتبليغه للعالمين تستلزم الخضوع لاختبارات الصبر، قال سبحانه وتعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، ولم يذكر في كتب السير أن الحصار أثر على أحد من الذين ابتلوا به فزعزع يقينه وارتد عن إيمانه، بل استمروا في أثناء الحصار بالدعوة لله في مواسم الحج وغيرها مما أدهش عدوهم من قوة عزائمهم وحسن صبرهم رغم المحنة التي كانوا يعايشون، كل ذلك يقينا بصدق وعد الله وتحقق وعده لعباده (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قريبٌ).