أفكار وآراء

الهجرة النبوية وإعادة ترتيب البيت الإسلامي

09 سبتمبر 2018
09 سبتمبر 2018

أ.د. حسني نصر -

يحتفل المسلمون هذه الأيام وفي شتى بقاع المعمورة بذكرى الهجرة النبوية الشريفة، ويستقبلون عاما جديدا، لا نملك في ظل حالة العجز والوهن التي وصلنا إليها إلا أن ندعو الله بأن يكون عاما أفضل من سابقه، وأن يكون فاتحة خير، وبداية انطلاقة حقيقية لاستعادة مكانتنا في العالم، كخير أمة أخرجت للناس.

بالأرقام يشكل الإسلام حاليا ثاني أكبر ديانة في العالم بعد المسيحية، بأعداد تقترب من الملياري نسمة، وتؤكد تقارير دولية موثوقة حول مستقبل الأديان في العالم أن عدد المسلمين سيتجاوز عدد المسيحيين في العالم في عام 2070، اذا ما استمر معدل النمو السكاني العالمي على ما هو عليه حاليا. والواقع أن الاحتفالات التي تعم العالم الإسلامي بالعام الجديد تضعنا أمام شاهدين مهمين. الشاهد الأول أن هذا الدين الذي بدأ في مكة المكرمة برجلين هما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، وصبي هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وامرأة هي السيدة خديجة بنت خويلد زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، أصبح يتبعه الآن مئات الملايين من البشر في الشرق والغرب والشمال والجنوب، يمثلون ربع سكان العالم تقريبا. وما زال هذا الدين رغم كل ما يواجهه من مؤامرات كونية الأكثر نموا والأسرع انتشارا في العالم، وهو ما يؤكد أنه الدين الحق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها.

الشاهد الثاني الذي لا يمكن تجاهله أن المسلمين ربما يواجهون الآن فترة من أصعب وأدق فترات تاريخهم، يتكالبون فيها بعضهم على بعض، وتتكالب عليهم الأمم من الشرق والغرب. فما الذي حدث؟ وكيف يمكن الخروج من الوضع البائس الذي يعاني منه المسلمون في أكثر من مكان، حتى في بعض الدول الإسلامية، ويحول بينهم وبين استعادة دورهم الرائد في العالم كأصحاب رسالة سامية من جانب وأصحاب دول وإمبراطوريات كانت تسود الدنيا من جانب آخر؟

ربما تكون ذكرى الهجرة النبوية الشريفة وبداية عام هجري جديد مناسبة جيدة لتفكيك واقع العالم الإسلامي المأزوم، ثم البحث عن خارطة طريق للخروج من حالة العجز والوهن التي تصبغ كل شيء تقريبا في العالم الإسلامي. ولعل أول خطوة في ذلك تتمثل في ضرورة تفكيك الصراعات الإسلامية- الإسلامية، والعودة إلى روح التسامح التي تميز الدين الإسلامي، وتجاوز الخلافات المذهبية التي أشعلت الحروب ودمرت الدولة الوطنية في دول عديدة، وأعاقت تقدم وازدهار الشعوب الإسلامية وجعلتهم في ذيل الشعوب والأمم.

المؤكد أن استمرار حروب الطوائف- إذا جازت التسمية- بين المسلمين من شأنه أن يبقينا لفترة طويلة خارج الحضارة الإنسانية حتى وإن امتلكنا آلياتها ومتطلباتها المادية. ولعلنا نمر الآن بما مرت به أوروبا المسيحية في العصور الوسطى، ولم تخرج منه إلا عبر الحوار المتسامح الذي مكنهم من إقامة نظام عام عادل وشفاف فصلت به الدين عن الدولة، وسادت من خلاله العالم بعد أن كانت مسرحا لحروب طاحنة لسنوات طويلة. ربما يكون من الضروري الآن ودون تأخير أن يجلس زعماء العالم الإسلامي معا لتحقيق هدف واحد وهو إنهاء الحروب وإشاعة السلام في جميع أنحاء العالم الإسلامي. فبدون ذلك لا يمكن الحديث عن مستقبل للمسلمين في قادم السنوات. وفي اعتقادي أن التوصل إلى تسويات عادلة لإنهاء الصراعات الإسلامية يتطلب أول ما يتطلب إعادة الاعتبار لمنظمة المؤتمر الإسلامي باعتبارها المظلة الأممية الوحيدة تقريبا التي تجمع الدول الإسلامية. ورغم تراجع دور المنظمة في السنوات الأخيرة فإن إعادة تأكيد كل الدول الإسلامية على الالتزام بأهدافها ومبادئها يمكن أن يكون مدخلا لحوارات بناءة وقرارات حازمة لإنهاء الحروب الإسلامية، خاصة وأن ميثاق المنظمة يتضمن مجموعة من المبادئ المهمة لو طبقت لكانت كفيلة بنزع فتيل أي صراع مسلح في العالم الإسلامي حتى قبل أن يبدأ، مثل «امتناع الدول الأعضاء في علاقاتها عن استخدام القوة أو التهديد بها ضد وحدة وسلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة عضو، وتسوية ما قد ينشأ من نزاعات بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية كالتفاوض والوساطة والتوفيق والتحكيم، إلى جانب احترام حق تقرير المصير، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، واحترام السيادة والاستقلال ووحدة أراضي كل دولة عضو».

وتمتلك المنظمة محكمة أنشئت بقرار من مؤتمر القمة الإسلامي الخامس الذي عقد في الكويت الأسبوع الأخير من يناير 1987، هي محكمة العدل الإسلامية الدولية، التي تُعد، كما تقول وثائق المنظمة، «جهازا قضائيا رئيسيا للمنظمة تباشر مهامها وفقاً لأحكام قانونها الأساسي» الذي يتضمن 50 مادة. وتشمل أهلية هذه المحكمة التي تتكون من سبعة أعضاء ينتخبهم مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية لمدة أربع سنوات، «النظر في الخلافات التي قد تنشأ بين الأعضاء بصفة عامة». ويبدو أن هذه المحكمة لم يُحل إليها أي خلاف منذ تأسيسها، بل ظل إنشاؤها غير مفعل حتى عام 2015، وهو ما تؤكده توصيات الدورة الثانية والعشرون لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي التي عقدت في الكويت، في مارس 2015، والتي تضمنت توصية بـ «تفعيل إنشاء محكمة العدل الإسلامية لفض النزاعات بين الدول والمجتمعات المسلمة، وتعزيزها بقوة مشتركة تشكل من مختلف بلدان العالم الإسلامي». نعلم أن بعض الصراعات الإسلامية- الإسلامية أصبحت عصية على الحل خاصة بعد تدخل أطراف إقليمية ودولية فيها عسكريا، ولكن يبقى الأمل في أن يستفيق المسلمون بعد أن أكدت لهم الوقائع أن صراعاتهم لا طائل من ورائها إلا المزيد من التشرذم والضعف، وأن الاستعانة بالقوى الدولية علي أبناء الدين الواحد لم ينتج عنها إلا الخراب.

إن المسلمين وهم يستقبلون عاما هجريا جديدا عليهم أن يجعلوه فرصة للعودة إلى دينهم وإلى أنفسهم، وأن يضعوا نصب أعينهم أنهم يعيشون ضمن نظام عالمي يضع محاربة الإسلام على رأس أولوياته، وذلك عبر إثارة الخلافات وإشعال الحروب داخل وبين الدول الإسلامية، حتى نبقى منشغلين بأنفسنا طول الوقت، مع أننا نستطيع بما نملكه من عقيدة وتاريخ أن نكون كما كنا من قبل رقما صعبا في كل المعادلات الدولية. ومن هنا، وفي ظل حالة التراجع التي نشهدها، يصبح إعادة ترتيب البيت الإسلامي من الداخل، أولوية يجب أن توجه إليها كل الجهود المخلصة في هذه الأمة، كما أصبحت إعادة الوئام واللحمة الإسلامية إلى ما كانت عليه فرض عين على كل دولة إسلامية، بل وعلى كل مسلم.