أفكار وآراء

الصين.. القوة الدولية الصاعدة بقوة !

08 سبتمبر 2018
08 سبتمبر 2018

سعيد الكندي -

[email protected] -

بلا شك أن كافة المؤشرات الحالية قد بدأت تتضح جليا أن القوة الصينية هي القوة القادمة التي ستتخذ مكانتها بلا منازع في القرن الواحد والعشرين ، وأن تلك المؤشرات والدلائل ليست ترويجا كما يدعي البعض، بأن القوة المقابلة لهذه القوة في طريقها إلى الضعف مع مرور الزمن، وإن بدت أن تلك المؤشرات في تذبذب مستمر من ناحية النمو الاقتصادي الذي يتأرجح غالبا في مثل هذه الظروف، إلا أن ذلك ظاهرة صحية، ولأن الصعود لن يتأتى إلا بقوة ودفع، فهو يحتاج إلى هذه المعطيات بصورة متتابعة . وقد أدركت الصين بوعي كبير قيمة أن تختار رئيسا ذا كاريزما قيادية فعالة مدى الحياة ، ولقناعاتها التامة بقدرة الرجل القيادية التي ستوصل الصين الى قوة اقتصادية عظمى حقيقة لأمراء فيها. وكما قيل إذا كان القرن التاسع عشر أوروبيا، والقرن العشرين أمريكيا، فإنه بلا منازع سيكون القرن الحالي صينيا، وخاصة أن مؤشرات الديمقراطية الأمريكية في انحسار مستمر، وتراجع حقيقي للدور الأمريكي على المستوى العالمي كسياسة خارجية وبدأت تفقد دورها الفعلي، بالإضافة إلى صعود النزعة الشعبوية لدى الإدارة الأمريكية، والتراجع الكبير في مستوى الرئاسة والقيادة الأمريكية من الداخل، مما تعد نذرا ومؤشرا بإمكان الصين الطامحة استغلالها، وعدم تفويت الفرصة السانحة في الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة. وتظهر الآن الحركة المفصلية في الصراع لتكوين قوة تحاول كسر القطب الأوحد وميلان ميزان القوى إلى الكفة الأخرى.

فماذا يعني أن الصين تستثمر تسعمائة مليار دولار في أضخم استثمار في شبكة طرق تجارية هي الأوسع على وجه الأرض، وهو ما يعرف بطريق الحرير الجديد؟ وما هي أهميته التجارية بالنسبة للصين؟ وهل ستغزو الصين أوروبا؟ هذه الأسئلة وغيرها لا بد وأن تكون قد طرحت في مؤتمر كبير عقد في الصين حضره ما يقرب من ثلاثين رئيس دولة، عدا ألمانيا ـ فرنسا ـ أمريكا لإطلاق هذا المشروع العملاق. وهي بذلك تحاول ان تنتزع المركز الأول في السنوات الخمس القادمة على أقل تقدير، لتكون بذلك أقوى قوة اقتصادية على مستوى العالم، وما يتبعه هذا المشروع من نفوذ سياسي . إن مؤشر عدم حضور الدول المذكورة للمؤتمر لن يجعلها بمنأى عن الصدام مع الصين وتقاطع المصالح معها، برغم محاولة تلك الدول تحجيم ما تطمح إليه الصين، كون الصين لا تأخذ في اعتبارها السياسات المتبعة لدى تلك الدول، فهي غالبا ـ الصين ـ ما تتبنى نهجا مغايرا لكل الأعراف السياسية المتبعة في النظام الدولي، كما أنها تدعم الكثير من الدول ذات الأنظمة المخالفة للسياسة الأوروبية أو الغربية بشكل أعم، ولكن تبقى المصالح الاقتصادية هي الأكثر ضمانا لكلا الطرفين.

ولعل ما يثير مخاوف دول الاتحاد الأوروبي هو أن الصين على «طريق الحرير الجديد» ستقوم ببناء مرافق خدمية كثيرة، وموانئ ومطارات وطرق برية تكاد تكون في مواصفاتها عالمية وعالية الجودة. وتشير الكثير من التقارير الى أن كل المدن التي سيمر بها الطريق ستشهد حركة كبيرة ونشاطا بشريا ووظائف ورفاها اجتماعيا لم تعهده من قبل، وقد دفعت تلك المخاوف الإدارة الأمريكية بصورة صريحة الى توجيه الكلام المباشر الى الكثير من الدول التي سيمر عبرها الطريق في أن تجابه هذا المشروع بالرفض، إلا ان ذلك الطلب لم يلق استحسانا من تلك الدول ، ومما يثير الكثير من المخاوف أيضا ان الصين في الغالب لا تستجيب لإخضاع سياساتها لأي قوة كانت، لأن طموحاتها الجامحة تجعلها تتجاهل الكثير مما تتبناه أوروبا، من قيم وأعراف تختلف كثيرا في معاييرها عن النمط الصيني والجموح السياسي الذي سيكون متعاضدا مع القوة الاقتصادية ولا تنفك عنه. كما يبدوا ان هناك أهدافا أخرى للصين ، حسبما يعتقد البعض ، لم تعلنها بعد في خطتها الاقتصادية السياسية.

فالصين ماضية في تكريس التوسع التجاري في إطار ما يعرف بـ«طريق الحرير الجديد» الذي سيكون على شكل حزام، وسيكون على طريقين رئيسيين، الطريق البري ـ سكة الحديد ـ والذي سيربط الصين بأوروبا مرورا بالشرق الأوسط، وصولا إلى ألمانيا، والذي تقدر مسافته بـنحو أحد عشر ألف كيلومتر، والطريق البحري الذي سيربط جنوب الصين بجنوب شرق آسيا وشرق إفريقيا وينتهي الى أوروبا عبر البحرين الأحمر والمتوسط. كما أنها قد أمنت المساحات الشرقية من أوروبا وتوافقت مع الكثير من دولها تمهيدا لإنجاز المشروع.

لقد شكل طريق الحرير قديما قيمة كبيرة، وقدم فوائد كثيرة للبشرية، حيث ساهم في نقل الأفكار والثقافات والتجارة ، وإثراء الحضارة البشرية بوجه عام، أما طريق الحرير الجديد فقد يثير نوعا ما من صراع مصالح وأيديولوجيات وأفكار وثقافات ، ولعل الصين كقوة كبرى صاعدة؛ فإنها حتما سيكون لها قوة السيطرة على كل ما سيكون على هذا الطريق وما تنقله فيه وعبره، وخاصة أنها هي التي تتبنى بناءه بصورة تختلف عما كان في الماضي، فالمصالح الصينية ستكون هي الأوفر حظا من كل القوى والأطراف التابعة له ، حيث قامت الصين وعبر الأربعين عاما المنصرمة بإنشاء بنى تحتية صناعية كبيرة في المدن الصينية، وطورت الكثير من المدن الصناعية التي جعل منها طاقات صناعية وإنتاجية فائضة. كما أنها اتبعت أنظمة استبعدت فيها الاستثمارات الأجنبية، ولم تفتح أسواقها للمنتجات الأوروبية والعالم إلا بقدر محدود وما يلبي النقص من احتياجاتها من المواد الخام.

وعلى دول الاتحاد الأوروبي أن تتخذ مواقفها بكل حيادية وموضوعية وبقرار حاسم وصريح والإعلان عن موقفها من الصين، ولعلنا نتخذ ألمانيا أنموذجا أوروبيا بحكم أنها القوة الأولى في الاتحاد الأوروبي، فانه برغم أن التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وألمانيا يفوق في رقمه بين الصين وألمانيا، إلا أن ألمانيا تريد أن تمسك العصى من المنتصف، فهي لا تريد التفريط في القوة القادمة، والتي حتما سيكون ميزان القوى لصالحها وخاصة أن طرق الحرير سينتهي بأراضيها، وبين الميزان التجاري الأمريكي الذي ما زالت تعول عليه ألمانيا، بجانب أنها تدرك القراءات المستقبلية بشأن مستقبل القوة الأمريكية ، وكأنها ـ ألمانيا ـ على مفترق طرق أحلاهما مر بالنسبة لها. وبالرغم من المخاوف الألمانية من الشراكة الصينية وخاصة في مجال « التكنولوجيا » من اتهام ألمانيا الصين بسرقة التكنولوجيا الألمانية إلا أنها لا ترى محيصا عن ذلك كون الصين تمتلك حصصا كبيرة في صناعات ألمانية عملاقة.

إن النموذج الصيني غير قابل للتكرار لأن سياسته تستمد قوتها من خصائص صينية عميقة في بنية الفكر الصيني والتاريخ القديم، كما ان هذا التوجه احدث استجابة جماهيرية واسعة لدى الوسط الجماهيري في الصين لإدراك الشعب الصيني بأن الحكومة الصينية تتوجه نحو المسار الصحيح، كما أنها ماضية في الإصلاح ومحاربة الفساد، وعدم السماح بهدر الأموال العامة. فالصين نظام لا يعترف بالكثير مما هو لدى الأنظمة الغربية، وخاصة فيما يتعلق بالكثير من القضايا الاجتماعية ، إلا أن المجتمع الدولي اليوم يراهن على أن القرن الحالي سيكون على الأرجح صينيا بنظامها الذي تتبناه وتخذه منهجا في قوتها الاقتصادية القادمة. فالصين لا تستمع ولا تستجيب ولا ترضخ لجميع المطالبات الأوربية وغير الأوربية، بل هي تستمع الى نفسها وتقتنع باقتصادها وإنتاجها الذي ترسم له وأنها بصناعاتها ستدخل كل بيت في هذا الكوكب الذي نعيش فيه.