أفكار وآراء

حق العودة لا يسقط بقرار أمريكي

08 سبتمبر 2018
08 سبتمبر 2018

د. عبد العاطي محمد -

من الصحيح أن المساهمة في الوكالة تطوعية أي لا تمثل التزاما لا على الولايات المتحدة ولا على غيرها ثم من حق الولايات المتحدة أن توقف مشاركتها في التمويل. ولكن إنهاء عمل هذه الوكالة، هو حق موكول للجمعية العامة للأمم المتحدة وحدها ، تبقى عليها أو تلغيها خصوصا أن القرار المنشئ للوكالة ينص على التشاور بين دول الجوار والدول الأخرى المتبرعة فيما يتعلق بتحديد متى يتعين توقف نشاط الوكالة.

لم يكن مفاجئا قرار الإدارة الأمريكية وقف مساهمتها في ميزانية الوكالة الدولية لغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، لأنها كانت قد أعلنت عن نيتها هذه في يناير الماضي، ولأن القرار كان متوقعا في ظل السياسة الأمريكية الجديدة الهادفة إلى إلغاء القضية الفلسطينية تماما بدءا من قرار نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس إلى محاولة عزل غزة عن الضفة الغربية وصولا إلى القرار الأخير بوقف المساعدات للأونروا بما يعنى إلغاء حق العودة، ليتحول الأمر إلى مجرد نزاع على أراض بين الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن حله بصفقة تعكس ما يريد المحتل فقط أن يقدمه لضمان العيش للفلسطينيين تحت مظلة وسيادة دولة واحدة هي دولة الاحتلال مستندا في ذلك إلى ما لدى المحتل من عوامل القوة.

والقرار الأخير يعد تحديا واستفزازا لباقي الدول الكبرى التي أنشأت مع أمريكا الأمم المتحدة للعمل من أجل حفظ أمن وسلام العالم ونصرة الشعوب الخاضعة للاستعمار والمتطلعة الى مكانة مناسبة بين الأمم الأخرى. وما كان لهذا السلوك الغريب أن يحدث لولا أن الإدارة الأمريكية الجديدة لا تلقي بالا بالمؤسسات ولا بالمستشارين وأهل الحكمة والخبرة بالشأن الدولي، وإنما تتصرف وفق ما تراه قيادتها مفيدا لها ولبلادها بعيدا عن كل التقاليد التي رسختها المؤسسات الأمريكية وغير الأمريكية، بل وبعيدا عن قواعد وقرارات المنظمة الدولية التي هي وجهة نظر المجتمع الدولي نفسه.

وفي ظل ما تردد حول وجود خلافات بين مسؤولين أمريكيين كبارا حول القرار الخاص بوقف المساعدات الأمريكية للاونروا والذي يقف جاريد كوشنر ، صهر الرئيس الأمريكي ، وراءه ، خرجت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية لتقول ، في سياق تبريرها للقرار ، إن «الإدارة درست الموضوع ووجدت أن عمل الوكالة الدولية معيب بشكل لا يمكن إصلاحه» وهو ما استقبله مسؤولو الوكالة بالاستهجان ووصفوه بالأمر الغريب والمثير للدهشة. والملفت أن أمريكا ذاتها كانت قد تبرعت بنحو 368 مليون دولار العام 2016 وكانت تمول نحو 30% من أنشطة الوكالة، فكيف اكتشفت خلال عامين فقط أن عمل هذه المنظمة معيب إلى حد يصعب إصلاحه؟!، علما أن عمل الوكالة ممتد منذ 68 عاما ولم تعترض عليه أية إدارة أمريكية سابقة.

يعلم الكافة من المسؤولين الأمريكيين الأحياء والأموات وكذلك كل الخبراء والسياسيين الذين تابعوا القضية الفلسطينية على مدى التاريخ أن نشأة وكالة غوث اللاجئين ارتبطت ارتباطا وثيقا بالحل الذي رأته الأمم المتحدة مع قيام إسرائيل، وهو أن هناك شعبا فلسطينيا تم تشريده من وطنه فلسطين بسبب حرب 1948 وأن قطاعا كبيرا من هذا الشعب أصبح لاجئا في أكثر من بلد عربي مجاور هي تحديدا الأردن وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية سواء الضفة أو غزة، وأن وضعية اللاجئ تعني أنه في حالة مؤقتة يتعين مع انتهائها أن يعود إلى وطنه، وأنه يحتاج إلى المساعدة الضرورية ليبقى على قيد الحياة وخصوصا في مجالات الغذاء والصحة والتعليم والتشغيل. وبناء عليه حرصت المنظمة الدولية على التشديد على أن الوضع المؤقت والمساعدة من خلال وكالة الغوث لا يمسان حق اللاجئين في العودة. هكذا كانت صياغة القرار الصادر من الجمعية العامة برقم 302 يوم 8 ديسمبر 1949.

وقد نص القرار في بنده السابع على ان : «تؤسس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى وتشغيلهم. وحدد مهمتها في أمرين الأول هو القيام بالتعاون مع الحكومات المحلية بالإغاثة المباشرة، وبرامج التشغيل بحسب توصيات بعثة المسح الاقتصادي، والثاني التشاور مع الحكومات المهتمة في الشرق الأدنى، في التدابير التي تتخذها هذه الحكومات تمهيدا للوقت الذي تصبح فيه المساعدة الدولية للإغاثة ولمشاريع الأعمال غير متوافرة. كما نصت المادة الثامنة على وجود لجنة استشارية من ممثلي فرنسا وتركيا والمملكة المتحدة وشمال أيرلندا والولايات المتحدة مع إضافة ثلاثة أعضاء إضافيين من الحكومات المساهمة لأداء المشورة ومعاونة مدير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم في تنفيذ البرنامج، ويقوم المدير بالتشاور مع الحكومات المحلية في اختيار المشاريع.»

الإدارة الأمريكية تتعمد إلغاء عمل الوكالة تدريجيا لإلغاء حق العودة برغم وضوح القرار الدولي المذكور الذي يعد سندا قانونيا دوليا قويا لتأكيد هذا الحق. وقدمت طرحا ضعيفا للغاية لقرارها وقف التمويل ، وهو ما أثار استنكار قيادات الوكالة وبالطبع القيادة الفلسطينية. فهي تقول بأن عمل الوكالة «معيب» مع أنها على درجة عالية من الكفاءة ، وإلا لكانت الدول الأخرى المتبرعة قد توصلت إلى نفس التقدير وقررت أن تسلك نفس الموقف، وهو ما لم يحدث، خصوصا أنها مؤسسة تعمل ضمن إشراف الأمم المتحدة ولها تاريخ طويل. وقالت أيضا إنها تريد أن تراجع حجم اللاجئين حيث لا تعترف بما هو مسجل عن عددهم في وثائق الأمم المتحدة. وتريد أن تقلل هذا العدد من 5 ملايين لاجئ إلى 500 ألف فقط. ومع أن هذا يعد تشكيكا في مصداقية المنظمة الدولية، فإنها لم تقدم الدليل على صحة تقديرها الجديد. والهدف هو إثبات أنه لا توجد قضية لاجئين أو أنها قضية بسيطة جدا تتعلق بحياة نصف مليون شخص فقط ومن ثم لا يتعين وجود وكالة لرعايتهم ولا اعتمادات مالية كبيرة. واتساقا مع هذا التوجه الأمريكي لإفراغ القضية من جوهرها ولترويج أنها مسألة لا تستحق أن تكون ضمن أية خطة سلام مقبلة، قالت ـ وفقا لمصادر إعلامية إسرائيلية - إنها ستسمح لبعض دول الخليج العربية بأن يحلوا محلها في تمويل نشاط الوكالة لمدة عام فقط بعده يتم الاستغناء عن الوكالة تماما، علما بأن الوكالة تواجه عجزا ماليا يقدر بنحو 270 مليون دولار، وما يمكن تقديمه من هذه الدول لن يتعدى 150 مليون دولار.

وإذا وضعنا جانبا استهانة الإدارة الأمريكية بما هو ثابت في القرارات الدولية (التي شاركت هي نفسها فيها)، فإن الظاهر على مستوى السياسة أو الدبلوماسية التي تعمل بها هو أن قرار التوقف عن المساهمة في الأونروا لا يخرج عن أدوات الضغط السياسية التي أصبحت معتادة من جانب هذه الإدارة لتصفية القضية الفلسطينية وفرض التصور الإسرائيلي الذي يقضى بوجود دولة واحدة لشعبين أحدهما كامل المواطنة والثاني أي الفلسطينيين ناقص المواطنة (دولة الأبارتهايد). فقد صدر القرار بضغط من «كوشنر» ردا على رفض أفكاره التي طرحها على مدى الأشهر الأخيرة . ومن ناحية أخرى يمثل ضغطا على الدول التي تحتضن اللاجئين وفي المقدمة من هؤلاء الأردن، حيث يصبح من المتعين أن تتحمل هذه الدول نفقات حياة اللاجئين من غذاء وصحة وتعليم وتشغيل بما يعني ترحيل المشكلة كاملة إلى هذه الدول، مع أن نظام الوكالة قائم على التبرع الطوعي من مختلف دول العالم عبر الصندوق المخصص لذلك. وتتصور الإدارة الأمريكية أنه بهذا الوضع تجعل الدول الحاضنة والمتبرعة في مأزق يتعلق بضرورة أن تتحمل المسؤولية على الأقل لكي تواصل الوكالة نشاطها مع احتمال أن تضيق ذرعا بالمهمة مع الوقت ومن ثم ترضخ لإقصاء مسألة حق العودة من أية عملية سلام مقبلة.

ومن الصحيح أن المساهمة في الوكالة تطوعية أي لا تمثل التزاما لا على الولايات المتحدة ولا على غيرها ثم من حق الولايات المتحدة أن توقف مشاركتها في التمويل. ولكن إنهاء عمل هذه الوكالة، هو حق موكول للجمعية العامة للأمم المتحدة وحدها ، تبقى عليها أو تلغيها خصوصا أن القرار المنشئ للوكالة ينص على التشاور بين دول الجوار والدول الأخرى المتبرعة فيما يتعلق بتحديد متى يتعين توقف نشاط الوكالة. وليس من المتصور أن الدول الكبرى الأخرى وبقية أعضاء الجمعية العامة سيوافقون على الرغبة الأمريكية في إنهاء عمل الأونروا احتراما لالتزاماتهم الدولية فيما يتعلق بتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى فإن مسألة التمويل يمكن أن تتكفل بها دول عربية وإسلامية عديدة أي لا تشكل مشكلة كما قد يتصور البعض . وكرد فعل بدأت دول أوروبية تتحدث عن استعدادها لرفع مساهماتها في ميزانية الوكالة الدولية مثل ألمانيا. والأرجح انه لن تجني الإدارة الأمريكية من هذا القرار إلا المزيد من الحرج والصعوبة في القيام بدورها كدولة عظمى في عملية السلام بالشرق الأوسط، تماما مثلما حدث معها في مسألة نقل السفارة إلى القدس وفي محاولة فصل غزة عن الضفة الغربية .