أفكار وآراء

الليبراليون والقوميون والصراع من أجل ألمانيا

07 سبتمبر 2018
07 سبتمبر 2018

جيديون راكمان – الفاينانشال تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

في عام 1989 استثار هتاف “ نحنُ الشعب” مشاعرَ الناسِ حول العالم. كان ذلك الهتافُ شعارَ المظاهرات الشعبية في ألمانيا الشرقية الذي قاد إلى هدم سور برلين وأنهى الحرب الباردة. وبعد ما يقرب من 30 عاما تجدد نفس الهتاف في شوارع ألمانيا الشرقية لكن في سياقٍ جديد ومزعج. لقد أصبح صرخةَ الحربِ للمتظاهرين المعادين للهجرة والمرتبطين باليمين المتطرف. ففي كيمنتس، وهي بلدة صغيرة شرقي ألمانيا تحولت إلى مركز اشتعال المظاهرات، شرح لي مدرس متقاعد ومتظاهر أمس الأول الخميس أنه كان “ في الخط الأمامي في عام 1989 وكانت الروح التي سادت وقتها هي نفسها السائدة اليوم. وكان أيضا نفس الغضب العميق ضد الحكومة.” وذكر متقاعد آخر أن الحكومة الألمانية الشرقية في عام 1989 وصفت المتظاهرين “بالدهماء المنفلتين” مضيفا أن حكومة ميركل “ تستخدم اليوم نفس اللغة بالضبط.” هذه المقارنات بين الثورة الديموقراطية في عام 1989 والمظاهرات المعادية للمهاجرين تبدو شنيعة في نظر العديدين. لكن التيار العريض للساسة الألمان يحذر بدلا عن ذلك من وجود تشابه بينها وبين أحداث الثلاثينات. وهم بذلك يشيرون بذلك إلى حقيقة أن بعض متظاهري اليوم يؤدون التحية النازية في الطرقات. لكن المماثلات مع عام 1989 مدعاة لتقليب الفكر في جانب واحد هام. فالثورة في ألمانيا الشرقية فجرتها تحولات عميقة حدثت خارجها وأساسا في الاتحاد السوفييتي. وعلى نحو شبيه ، يشكل التصعيد الحالي للشعور القومي والشعبوي في ألمانيا جزءا من تحول أوسع في السياسة الدولية. لقد شكل ظهور ميخائيل جورباتشوف الزعيم الإصلاحي للاتحاد السوفييتي السابق ضربة قاضية لحكومة ألمانيا الشرقية ، التي كانت أساسا تابعا سوفييتيا. واليوم تشعر حكومة ألمانية مرة أخرى بعدم الاستقرار بسبب تحولٍ جذري في سياسة بلدِ كانت تتطلع إليه تقليديا لتولى الزعامة. لكن الاستثناء هذه المرة أن التغيير في واشنطن وليس موسكو. لقد حدث النزوح الكبير لما يزيد عن مليون لاجئ ومهاجر إلى ألمانيا في معظمه عام 2015. واختير دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بعد عام لاحقا. وكما كانت الحال في عام 1989 حين افترض على نطاق واسع أن جورباتشوف متعاطف مع المتظاهرين المناصرين للديموقراطية في ألمانيا الشرقية كذلك الآن يتعاطف ترامب مع الحركة المعادية للمهاجرين في ألمانيا ومع التيار العريض للقوى القومية في أرجاء أوروبا. ففي سلسلة من التغريدات والتعليقات المبطنة بالازدراء أوضح الرئيس الأمريكي دون مواربة أنه يعتبر سياسات المستشارة أنجيلا ميركل بشأن اللجوء كارثية وأنه يتوقع ثورة سياسية في ألمانيا بل ويرحب بها. لقد بدت تفضيلات ترامب واضحة إلى حد أن زيغمار غابرييل الذي كان وزيرا للخارجية الألمانية حتى وقت مبكر من هذا العام اتهم الولايات المتحدة بالسعي “لتغيير النظام”في ألمانيا. لكن يجب عدم الإفراط في الحديث عن التماثل بين الأحداث الراهنة وأحداث العام 1989. فالذعر الذي أمسك بخناق المكتب السياسي (للحزب الشيوعي) الألماني الشرقي وقتها ليس له ما يناظره في برلين اليوم. حقا إن وزراء الحكومة مهمومين بالأحداث في كيمنتس. لكن لا أحد خائف من إزاحته من السلطة. رغما عن ذلك تمثل الأحداث في كيمنتس الجانب الخشن لتحوّل أوسع نطاقا في السياسة الألمانية. فالمعارضة الرسمية في البرلمان هي الآن حزب البديل الألماني الشعبوي والمعادي للهجرة. وبعض شخصياته القيادية تشجع على الإجراءات البرلمانية الاستثنائية وعلى العدالة غير القانونية (غير الرسمية). عندما كانت نسبة التأييد لليمين المتطرف أقل من 5% لم تجد السلطات الألمانية أية صعوبة في مراقبته وقمعه. لكن وفقا لحسابات المسؤولين الحكوميين يؤيد أو يتعاطف 25% من السكان في مناطق مثل كيمنتس مع حزب البديل من أجل ألمانيا. أوجد هذا الوضع قلقا حول تأييد اليمين المتطرف في جهاز الشرطة وأذرع الدولة الأخرى. وساهم صعود حزب البديل وخروج الغضب إلى شوارع ألمانيا في شيوع إحساس بأن ثمة حقبة تصل إلى نهايتها. لقد واجهت ميركل عنتا على مدى شهور لتشكيل حكومة ائتلافية. وحتى بعض مؤيديها يقولون إنها منهكة ومتأثرة من الكراهية التي واجهتها في ألمانيا الشرقية في الانتخابات الأخيرة. كما تواجه ميركل الآن أيضا تحديات من داخل الاتحاد الأوروبي الذي أولته ألمانيا رعايتها منذ فترة طويلة باعتباره معقلا للقيم الليبرالية. وسيعني دخول القوميين والشعبويين في حكومات إيطاليا والمجر وبولندا والنمسا أن القوميين الألمان جزء من ردِّ فعلٍ أوروبي أوسع نطاقا ضد الأرثوذكسية الليبرالية. حين تتطلع ميركل (إلى من يجلسون) حول طاولة مجلس الاتحاد الأوروبي ترى الآن عددا من الأعداء العقائديين. وأكثرهم فصاحة هو فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر. لقد كان أوربان أحد زعماء الحركة المعادية للشيوعية والمؤيدة للديموقراطية في بلده عام 1989 لكنه الآن يناصر نمطا جديدا من الاستبداد القومي يمَوضِع الشعورَ المعادي للاجئين في قلب السياسة. ومؤخرا صرح قائلا انه “ في عام 1990 اعتبرنا أوروبا المستقبل. الآن نحن مستقبل أوروبا.” لا تنوي مؤسسة برلين السياسية التنازل عن مستقبل أوروبا للقوميين من أمثال “ أوربان” وحزب البديل من أجل ألمانيا. لكن المسؤولين والساسة الألمان يعلمون أنهم في معركة مرة أخرى. في عام 1989 تحالف الليبراليون والقوميون أيديولوجيا في الصراع من أجل الديموقراطية في أوروبا الشرقية. والآن تتواجه هاتان الأيديولوجيتان. وهذه المعركة بين الليبرالية والقومية يجري خوضها عالميا. كما تتجلى أيضا في شوارع المدن الصغيرة في ألمانيا.