أفكار وآراء

تداعيات حرب ترامب على الصحافة

02 سبتمبر 2018
02 سبتمبر 2018

أ.د. حسني نصر -

يمثل موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الصحافة ووسائل الإعلام المناهضة له ردة واضحة على التراث التاريخي لحرية الصحافة في الولايات المتحدة، الذى ترسخ على مدى عقود طويلة في الديمقراطيات الغربية. إذ أنها ربما تكون المرة الأولى التي يقوم فيها رئيس أمريكي بالتحريض ضد الصحافة والصحفيين، ويصف الصحافة بأنها عدوة الشعب، وهو ما يفتح الباب ليس فقط للحد من حرية الصحافة، ولكن أيضا للعصف بكل المكتسبات التاريخية التي حققتها الصحافة الحرة في الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم.

لقد نقل ترامب فكرة العداء التي ارتبطت تاريخيا بعلاقة الصحافة الأمريكية بالحكومة إلى العداء للشعب الأمريكي، في محاولة- تبدو غير ناجحة حتى الآن- لتغيير المفاهيم التي استقرت في المجتمع الأمريكي الذي ينظر إلى صحافته - بصفة عامة - على أنها صحافة معارضة للحكومة أياً كان نوعها - ديمقراطية كانت أم جمهورية -، وأنها خصم أو عدو طبيعي للحكومة. وتؤكد دروس التاريخ أنه قبل ترامب لم يستطع رئيس أمريكي من جورج واشنطن حتى باراك أوباما أن يتجاهل قوة الصحافة أو حاول إخماد صوتها. وتبرز هنا مقولة هاري ترومان الرئيس الأمريكي الثالث والثلاثين، “بمجرد أن تحاول الحكومة إخماد صوت الصحافة فإنها - أي الحكومة - تكون أمام طريق واحد وهو أن ترحل”، والتي صارت أيقونة تؤكد تمسك الأمريكيين الشديد بحرية الصحافة. والواقع أن عداء ترامب الشديد للصحافة قد يبدو مبررا لدى البعض، في ظل الحملات التي شنتها وتشنها الصحف عليه منذ إعلان انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2016. ومع تضييق الخناق عليه من جانب المحقق الخاص في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، وقضايا أخرى تتصل بنزاهة حملته الانتخابية وعلاقاته الخاصة قبل توليه الرئاسة، زاد هذا العداء في الأيام الأخيرة بشكل سافر وخرج عن الحدود المتفق عليها بين السلطات التي يتوزع بينها الحكم في الولايات المتحدة، ومن بينها الصحافة التي تُعتبر السلطة الرابعة التي تتولى الرقابة على السلطات الثلاثة الأخرى ومنها سلطة الرئيس. صحيح أن ترامب حاول التخفيف من حدة هجومه بزعم أنه لا يتهم كل الصحف وكل الصحفيين بالعداء للشعب، إلا أنه عاد ليؤكد في تجمع لأنصاره بولاية مونتانا أن 75 بالمائة من الصحفيين الأمريكيين سيئون وكاذبون وغير أمناء.

لقد أصبح واضحا أن ترامب يخوض معركة تكسير عظام مع التيار الغالب في الصحافة الأمريكية، وهو تيار يضم صحفا وقنوات تلفزيونية كبيرة لا قبل لترامب أو غيره بالوقوف أمامها، علي رأسها نيويورك تايمز وواشنطن بوست وتايم ونيوزويك والسي إن إن. وقد تضامنت صحف ومحطات تليفزيونية كثيرة مع هذه الصحف الكبرى خاصة بعد أن ضم ترامب شركات التقنية الكبرى مثل جوجل إلى قائمة أعدائه وأعداء الشعب.

المؤكد أن إصرار ترامب على الهجوم على الصحافة وتكرار استخدامه تعبير “أعداء الشعب” في لقاءاته الجماهيرية وتغريداته علي شبكة التدوين القصير “تويتر” سيكون له تداعيات كثيرة ليس فقط علي الصحافة الأمريكية، وإنما أيضا على حرية الصحافة كمفهوم وممارسة في العالم كله. على المستوى الأمريكي، أدى هذا الهجوم إلى تكون رأي عام مساند للصحافة وحريتها، وعادت الصحافة الأمريكية لتسترد جزءا من بريقها كصحافة حرة ووسيلة لا غنى عنها تضطلع بمهمة إعلام الجمهور عن الحكومة والرقابة عليها وكشف أخطائها. وتشير تقارير إعلامية عديدة إلى أن هجوم ترامب علي الصحف أدى إلى زيادة ملموسة في إقبال الناس عليها وليس العكس، سواء بالنسبة للنسخ الورقية أو المنصات الإليكترونية المختلفة. في نفس الوقت خلق هذا الهجوم تضامنا واسعا بين وسائل الإعلام الأمريكية على اختلاف توجهاتها باستثناء قطاع قصير تقف على رأسه محطة فوكس نيوز وعدد قليل من وسائل الإعلام المؤيدة لترامب واليمين المحافظ. وبدلا من أن يؤدى عداء ترامب إلى خفض حدة نقد الصحافة لشخصه وإدارته وسياساته وأفعاله، زادت وتيرة الهجوم عليه بشكل غير مسبوق، وزادت المطالبات بالبدء في إجراءات عزله على خلفية ما كشفت عنه لجنة التحقيق الخاصة بشأن التدخل الروسي، بالإضافة إلى تأكيد خطر استمراره علي النظام الأمريكي والقيم الأمريكية ومنها قيمة حرية الصحافة التي يحميها التعديل الأول من الدستور الأمريكي. والمعروف أن الممارسة الصحفية في الولايات المتحدة تستند على فكرة أن الصحافة هي “كلب الحراسة” الذي يتولى نيابة عن المجتمع متابعة كل ما يجري فيه وتنبيهه إلى الأخطار التي تحيط به، وأن الصحافة يجب أن تكون في موقف “العداء” الدائم مع الحكومة، وليس في موقف التابع.

على الجانب الآخر، أصبح هجوم ترامب المستمر على الصحافة يهدد سلامة الصحفيين الأمريكيين حتى وهم داخل مؤسساتهم الصحفية، وقد رأينا كيف دفع هذا الهجوم أحد مناصريه ويدعى روبرت دي شاين (68 عاما)، والذى تم القبض عليه الخميس الماضي، إلى الاتصال أربعة عشر مرة بصحيفة “بوسطن جلوب “ التي تصدر في ولاية كاليفورنيا والتي تزعمت منتصف الشهر الماضي حملة لمواجهة هجوم ترامب على الصحافة، واستجابت لها اكثر من 300 صحيفة بنشر افتتاحيات تندد بحرب ترامب على الصحافة، مهددا بقتل الصحفيين إذا لم يتوقفوا عن الهجوم على ترامب، ومستخدما نفس تعبيره “أعداء الشعب”. ويواجه “شاين” حكما بالسجن لمدة خمسة أعوام، بالإضافة إلى غرامة تصل إلى ربع مليون دولار.

وقد سبق هذا الحادث قيام شخص آخر في نهاية يوليو الماضي بإطلاق النار داخل غرفة أخبار صحيفة “ كابيتال جازيت” في مدينة أنابلوس بولاية ميرلاند، ما أدى إلى مقتل خمسة وجرح العشرات من الصحفيين، وهو ما اعتبره البعض نتيجة غير مباشرة لهجوم ترامب عليى الصحافة والصحفيين.

أما على المستوى الدولي، فإن هجوم ترامب الدائم على الصحافة ووصفها بأنها عدوة الشعب يمثل تخليا صريحا عن التزامات طالما دافعت عنها الولايات المتحدة باحترام حرية الصحافة، وخرقا لمواثيق حقوق الإنسان العالمية، واعتداءً على حقوق الصحفيين وتهديدا لسلامتهم. وقد أحسنت الأمم المتحدة صنعا عندما انتقدت مطلع الشهر الماضي على لسان بعض خبرائها هذا الهجوم، محذرة من أن يؤدى إلى زيادة وتيرة العنف ضد الصحفيين في العالم. الأخطر من وجهة نظري أن هجوم ترامب على الصحافة الحرة، وإن كان يتسق مع انقلابه على الحريات العامة، سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام حكومات عديدة في العالم، خاصة في الدول النامية، وأمام اليمين المتطرف في أوروبا للتذرع بالتوجهات الأمريكية للحد من الحريات العامة وحرية الصحافة. إذ سيكون من السهل على بعض الدول النامية والقادة السلطويين في العالم أن يسيروا على نهجه في العصف بالصحافة وحريتها. ولن يكون من السهل أن ينتقد أحد قتل أو اعتقال وسجن الصحفيين أو إغلاق الصحف والمواقع الإليكترونية في أي دولة من دول العالم، لأنها لم تفعل سوى السير على خطى أمريكا.