أفكار وآراء

وطن بلا سوريين.. وسوريون بلا وطن!!

01 سبتمبر 2018
01 سبتمبر 2018

د. عبدالعاطى محمد -

ليس هذه العبارة عرضا سياسيا للاختيار بين أى منهما, فكلاهما مر وأشبه بالنكبة, ولكنه عنوان يلخص أسوأ ما آل إليه الوضع في سوريا بعد 7 سنوات من الصراع السياسي على مصير تلك البلاد.

ورغم مرارة الاختيار بين هذا وذاك, هناك من يحلو له أن يبقى الخصام والجدل وتستمر المعاناة لسنوات, بعضهم من يصر على أن تبقى سوريا وطنا بلا سوريين, والبعض الآخر مستسلم لأن يبقى السوريون بلا وطن, لا لشيء سوى المكابرة والعناد والمراهنة على المجهول.

ليس هناك من عاقل أو من لا يزال مستمسكا بالحكمة والقيم العربية الأصيلة في زمن عز فيه هذا وذاك, يقبل بهذا الاختيار أو ذاك, ليس لأن سوريا البلد العربي العريق ومجد الإمبراطورية الإسلامية وقت عنفوانها لا تستحق التقليل من شأنها إلى هذا الحد وكأنها إحدى جزر الموز, وإنما لأن ضرورات السياسة, سواء أخذنا بفلسفة الواقعية السياسية, أو حتى بالأيديولوجية السياسية, أو بمنطق من رفعوا رايات ثورة ملونة من كل الأطياف, ضرورات تحتم اختيارا ثالثا بعيدا كل البعد عما يشير له هذا العنوان الذي يبدو غريبا وصادما للكثيرين, ولكنه متداول للأسف الشديد حيث تتبناه بعض أطراف الأزمة.

شئنا أم أبينا فإن ما آل إليه الوضع بعد كل التضحيات وصور الدمار المحزنة ومشاهد اللجوء بالملايين من جانب السوريين الذي تفرقوا بين دول الجوار وأوروبا, فقد تراجع الحل السياسي الذي بدأ مع الشرارة الأولى لتتحول الثورة من السلمية إلى العسكرة, وباتت الكلمة للحل العسكري كما هو قائم الآن وشواهده حاضرة لكل ذى عينين, وصب هذا الحل العسكري لصالح الحكم السوري على عكس ما كان يود من أشعلوا الثورة والذين دعموها بالمال والعتاد, حتى بات البعض يتحدث بقوة عن نهاية الثورة. وشئنا أم أبينا فإن التحول في مسار الأحداث بهذا الشكل الدراماتيكى ما كان ليحدث لولا تدخل قوتين دوليتين كبيرتين لإنقاذ الحكم السوري, هما روسيا وإيران. وعلى الجانب الآخر بدت المساندة الغربية, بل والمجتمع الدولي أيضا, للمعارضة السياسية والمسلحة مساندة إعلامية غير مجدية برغم صخبها, وباتت على الأرض مترددة وعاجزة عن تغيير المعادلة, فضلا عن الانشقاقات التي لاحقت كل تشكيلات المعارضة السياسية ثم المسلحة. وبينما الطرفان: النظام والمعارضة مشغولان بتحقيق النصر كل على الآخر, تواصل زحف السوريون إلى الخارج بحثا عن الأمان حتى وصل عددهم نحو 7 ملايين سورى هائمين في المعسكرات في تركيا وبعض الدول الأوروبية, و5 ملايين سوري استقروا في عدد من الدول العربية أهمها لبنان والأردن ومصر, كما زحف ملايين آخرون إلى الداخل أى قاموا بهجرة داخلية. وليس القارئ بحاجة إلى توضيح الحالة المأساوية التي يجد فيها مواطن عربي ما نفسه بعيدا قسريا عن وطنه, والمشاهد المبكية التي تنقلها وسائل الإعلام عن أوضاع كل هؤلاء كفيلة بالتدليل على ضخامة المأساة الإنسانية لهؤلاء. وليت الأمر توقف عند ذلك بكل ما فيه من مرارة, ولكن جد ما هو أشد مرارة حيث بدأت بعض الدول المضيفة تجأر من وجود السوريين على أراضيها وتطالب صراحة بالإسراع في عملية إعادتهم إلى بلدهم قبل أن تتحقق أية تسوية سياسية أو قبل أن تستقر الأوضاع.

ولأن الأزمة السورية لا تزال على سطح صفيح ساخن إلى حين ترجمة الانتصار العسكرى لدمشق إلى حقائق سياسية على الأرض, وبالنظر إلى ما استجد على الموقف برمته من صعود كفة الحكم عسكريا من ناحية, وتفاقم محنة اللاجئين والمهجرين داخليا وخارجيا من ناحية ثانية , أصبح العنوان الذي يتصدر المشهد هو أن الأزمة تحولت واقعيا إلى أن هناك وطنا يحتاج الى عودة أبنائه في جانب, وسوريون بلا وطن في جانب آخر, بينما الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة تبحث عن حل للخروج من هذه المعضلة المزدوجة, أو على وجه الدقة إيجاد دولة سورية جديدة تعيد الوطن والسوريين إلى الحالة الطبيعية التي يعرفها كل نظام سياسي مستقر وذو حكم رشيد, وتلك مهمة صعبة بكل المقاييس لأن ما جرى على مدى 7 سنوات أعاد الدولة والوطن والمواطنين خطوات عديدة الى الوراء .

روسيا التي تكاد تكون قد جمعت في يديها كل الأوراق الحاسمة في الأزمة تلقي بثقلها لتفعيل رؤيتها للخروج من الأزمة - المأساة- يتحرك الرئيس الروسي بوتين في أكثر من اتجاه: أوروبا وتركيا وإيران وإسرائيل. حقق بتدخله نجاحا عسكريا تمثل في هزيمة المعارضة المسلحة ومكن النظام من حشر بقايا المعارضة (هيئة تحرير الشام أو النصرة سابقا, وفيلق الشام) في إدلب حيث يتأهب النظام في الانقضاض عليها مثلما حدث في حلب, ولم تعد إلا جيوب صغيرة لتنظيم “داعش”. كما هدأ من مخاوف إسرائيل إلى حد الحديث عن تفاهمات بينها وبين النظام لإعادة العمل باتفاق فك الارتباط 1974 وعزز من تنسيقه مع كل من تركيا وإيران لتفويت الفرصة على إدارة ترامب حتى لا تستغل الوضع في شمال شرق سوريا لإفساد أية طبخة سياسية روسية مستقبلا.

وكان ملفتا اهتمام الرئيس بوتين بملف اللاجئين والمهاجرين السوريين باعتباره ورقة سياسية مؤثرة تلعب دورا مهما في تحديد مواقف دول أوروبية كبيرة مثل فرنسا وألمانيا. كلاهما له علاقات تجارية كبيرة مع روسيا فضلا عن تقارب في وجهات النظر السياسية على الصعيد الدولي, وكلاهما مهموم بقضية اللاجئين ولهما علاقات جيدة مع تركيا التي لا تزال تتحمل عبئا كبيرا في القضية وتأمل في إعادة اللاجئين إلى سوريا في أقرب وقت, مع ملاحظة أن بعض الدول الأوروبية تتحمل أموالا لدعم الموقف التركي في هذا الملف ويهمها إغلاقه اليوم وليس غدا.

ومن جهة أخرى فإن بوتين يرمى إلى ما يتعين فعله بعد أن تسكت المدافع تماما, ويقصد بذلك إعادة إعمار ما دمرته الحرب ودور أوروبا في هذه المهمة المستقبلية. ومع أنه لم يترشح شيء بهذا الصدد من خلال اتصالات بوتين الأوروبية, إلا أنه يعلم جيدا أن بلاده لن تقوى على هذه المهمة ومن المهم أن يحفز أوروبا على الاستعداد للمشاركة بشركاتها العملاقة في إعادة الإعمار.

كل ذلك يرتبط بالعمل على إنجاح مشروعه السياسي للحل في سوريا والمعروف بمسار سوتشى الذي يفتح الباب للمعارضة السياسية (في ظل إقصاء المعارضة المسلحة كما جرى حتى الآن) وإجراء الانتخابات العامة ووضع دستور (يعكف المبعوث الدولي دى ميستورا على وضعه). واهتمامه بعودة السوريين لا شك سيلقى ترحيبا من الفريق المشارك في سوتشى باعتباره بادرة حسن نية, فما من أحد لا يود عودة السوريين إلى ديارهم. كما أن فتح ملف إعادة الإعمار يشكل ضمانة تحفز المعارضة على المضي قدما في هذا المسار.

ولكن برغم أهمية ما تتضمنه خطة بوتين من خطوات, وما يشكله اهتمامه بقضية عودة السوريين من إغراء للمعارضة السياسية وكذلك حديثه عن إعادة الإعمار, فإنه يصطدم بخلافه الشديد مع الولايات المتحدة حول المستقبل السياسي لسوريا وتحديدا مستقبل الأكراد في شمال شرق البلاد, كما أنه لا يحظى بدعم من بريطانيا مثلما الحال مع كل من فرنسا وألمانيا. ومشروعه مهما نجح في التوصل إلى اتفاق عليه من جانب المعارضة السياسية السورية مآله بالضرورة الذهاب إلى مجلس الأمن وهناك سيصطدم بكل من بريطانيا والولايات المتحدة. ولا إمكانية لإعادة الإعمار بعيدا عن الحصول مسبقا عن التأييد الأمريكى.

والخلاصة أن التحرك الروسي مفيد في حل الجزء الأول من هذا المقال: وطن بلا سوريين, لأنه بوضوح يعمل على استعادة الوطن السوري لكل السوريين. ولكنه كما سبق القول مرهون بانفراجة كبيرة في علاقات روسيا مع الولايات المتحدة, وهو ما ليس متحققا حتى الآن.

بقى الجزء الثاني من العنوان وكيفية تغييره إلى العكس.فالخصوم السياسيون للنظام ومن ثم لروسيا لا يقبلون بحرق المراحل كما يريد بوتين ويشددون على أن الحل السياسي لابد أن يسبق أى حوار عن عودة السوريين وإعادة الإعمار. وهم يؤكدون أنهم مع العودة بالتأكيد ولكن ذلك لن يتحقق إلا بعد التوصل إلى الحل السياسي حيث لا يعقل أن يعود السوريون إلى معسكرات ربما أقل إنسانية مما هم فيها الآن بسبب ضعف الإمكانيات, وفي كل الأحوال لن يعودوا إلى ديارهم لأنها ببساطة تم تدميرها, هذا فضلا عن غياب الثقة في موقف النظام من العائدين حيث ليس من المستبعد أن ينتقم النظام من بعضهم ولن يجدوا الحماية من ذلك. وهؤلاء أميل إلى بقاء الوضع على ما هو عليه إلى أن يتحقق الحل السياسي المنشود, أى أنهم مع الجزء الثاني من العنوان وهو سوريون بلا وطن!.

الاختيار الثالث هو الأفضل بالتأكيد, أى العمل على بناء نظام سياسي جديد يستعيد الوطن الذي ضاع, ويفتح أبوابه لكل أطيافه, ويمتلك الشجاعة التاريخية بتحقيق مصالحة وطنية لا غالب فيها ولا مغلوب حيث الجميع خسر كل شئ, لا مجال فيه للانتقام وتصفية الحسابات. المهمة صعبة وفي نظر المتشائمين مستحيلة بحكم مرارات السنوات الماضية, ولكن ما يعزز دعاة التفاؤل أن البديل (الذي لخصه العنوان الذي تصدر المقال) ليس مفيدا لطرفي الأزمة: النظام والمعارضة حيث لم تفيدنا تجارب التاريخ لشعوب واجهت نفس الموقف بأن نظاما حافظ على بقائه دون أن يكون له مواطنوه الذين يعطونه الشرعية, ولا شعوب استطاعت أن تعيش هائمة على وجوهها محرومة من الوطن الذي تجد فيه شخصيتها وتجربتها الإنسانية وحقوقها وواجباتها الذي ينظمها قانون أساسي متعارف على تسميته بالدستور.