465
465
المنوعات

من البيولوجيا إلى الثقافة.. ملاحظات بخصوص برنارد لويس

27 أغسطس 2018
27 أغسطس 2018

د. إسماعيل مهنانة ✱

بعد الحرب العالميّة الثانية، تخلّى الفكر الغربي عن تصنيف الشعوب على أساس عرقيّ/ بيولوجيّ، لكنّ التصنيف الثقافيّ حلّ محلّه؛ الآخرون، لم يعودوا آخرين بالعِرق وإنّما بالثقافة، وهم متخلّفون أو متقدّمون بحُكم ثقافتهم، وبحُكم ثقافتهم تلك يكونون أصدقاء أو أعداء للغرب، تماماً كما جاء في سِفر "صدام الحضارات" لصمويل هنتنغتون الذي تحوّل من أطروحة إلى عقيدة. ويمكن القول إنّ براديغم "التفسير الثقافي" قد اكتمل مع نظريّة "صِدام الحضارات" والمُصطلح ليس لهنتنغتون كما هو شائع، بل يعود إلى المُستشرِق الكبير برنارد لويس الذي كتبه في تقرير خاصّ بالشرق الأوسط سنة 1957.

لهذا فإنّ المؤسِّس الحقيقي لـلقدريّة الثقافيّة أو "الثقفوت" وعرّاب البراديغم الثقافوي، هو برنارد لويس الذي توفّي قبل أشهر قليلة (19 مايو 2018) عن عمر قرن وسنتَين، وتَرَك أسئلة كثيرة حول مصير القدريّة الثقافيّة وإمكاناتها التفسيريّة وحدودها، نودّ ههنا طرح بعضها.

ارتبط اسم المستشرق الأنغلو- أميركي برنارد لويس بالشرق الأوسط؛ فقد وُلد سنة 1916، سنة سايكس بيكو، وعاش كلّ حياته شاهداً ودارِساً، خبيراً، ومُستشاراً للدوائر الاستخباراتيّة الغربيّة في كل ما يتعلّق بالمنطقة المذكورة. اكتسب شهرته الأكاديميّة بما أدخله على الاستشراق الكلاسيكي من تثوير في المنهج والرؤية: على الاستشراق أن ينفتح على دراسة المجتمع والاقتصاد والحياة اليوميّة للشرق بدل البقاء حبيس الكُتب والمخطوطات والتراث الإسلامي. وقد قدّم دراساته المبكّرة بهذه الرؤية، وخصوصاً في كتابَيه الأكثر شهرة من هذه المرحلة "أصول الإسماعيليّة" (1940) و"ظهور تركيا الحديثة" (1961)، حيث تبلورت النظريّة الثقافويّة في تفسير الإسلام: "فالمسلمون المُعاصرون ليسوا إلّا نتاج سيرورة تاريخيّة تكون قد بدأت منذ القرن الحادي عشر ميلادي، (الرابع للهجرة) حيث انغلق الإسلام على نفسه وتدحرج على منحدر تاريخي من التفكّك والتحلّل والوَهن، لا يزال سارياً إلى غاية اليوم". وإنّ كلّ ما نشاهده من عنف وتمزّق اليوم، ليس إلّا مظهراً من مظاهر "غضب الإسلام" (مقالة 1990).

وتاريخيّاً دائماً، شكَّل حَدَث سقوط القسطنطينيّة في يد المسلمين سنة 1453 علامة فارِقة في تاريخ الصراع بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحيّة. فبقدر ما كان السقوط هزيمة واضحة للغرب، كان منبِّهاً ومحفِّزاً له على النهوض والتوحّد وظهور الحداثة الغربيّة. لقد شكَّل ذلك الفتح أيضاً حدود الإسلام القصوى وبداية انهياره أمام الغرب.

" الإسلام هو المشكلة وليس المُسلمين"، يقول لويس، فالإسلام ليس مجرّد دين، أو مُعتقد، بل هو ثقافة وهويّة وهندسة اجتماعيّة شامِلة لا تُنتِج سوى الشعور بالغضب والحنق تجاه الحضارات الأخرى، لأنّه فشل في الحفاظ على هَيمنته وقوّته فاندحر واضمحلّ، لكنّ الشعور باقٍ. وبهذا يكون الصدام بين الإسلام والمسيحيّة أبديّاً ولا حلّ له بحسب لويس. وإذا أراد الغرب أن يتجنّب شرور المسلمين، فما عليه سوى الحفاظ على هَيمنته وتحكّمه في العالَم الإسلامي، وتسيير أزمته البنيويّة الدائمة عن طريق التدخّل المُباشر وإعادة تشكيل الدّول والخرائط والهويّات في كلّ مرّة.

في القرن التاسع عشر استعمل الاستشراق مسوّغ "العرق" لتبرير الاستعمار، وفي القرن العشرين استبدَله بمسوّغ "الثقافة" لتبرير المُمارَسة نفسها. يبدو أنّ الفكر الغربي لم يخطُ أيّ خطوة أخلاقيّة في هذا المنحى.

مبكّراً تنبّه المفكّر والمحلّل النفساني الجزائري فرانز فانون (من أصل مارتينيكي) إلى عقدة التعالي التي تنخر الفكر الغربي في رؤيته لأغياره، كمّا حذَّر من عقدة الدونيّة التي ستصيب هؤلاء الأغيار بتمثّلهم الأعمى لمقولات الثقافة الأوروبيّة، ما سمّاه بـ"الخطأ الأبيض الكبير" مقابل "السراب الأسود الكبير". تأسّست العقدة الثقافيّة المُزدوجة، بحسب فانون، حين انقسَم العالَم الحديث إلى "شعوب متكلّمة" و"شعوب صامتة" بفعل الاستعمار. فالحداثة شطرت العالَم إلى شعوب تكتب وتتكلّم وتحتكر الخطاب والتخييل حول شعوب أخرى لا تتكلّم عن نفسها إلّا بواسطة المقولات والآداب والفنون والإيديولوجيّات التي أنتجتها الحضارة الغربيّة. وفانون هنا لا يدعو إلى التخلّي عن الحداثة الأوروبيّة، وإنّما إلى نظريّة نقديّة في التمثّل الثقافي للفكر الغربي، يؤسِّس فانون شكلاً جديداً من المُقاوَمة والاستقلال داخل الوعي. فعلى الرّغم من طرد المستعمِر جغرافيّاً، لا تزال معركة طرده من الوعي أشدّ ضراوة وأكثر مكراً، لأنّه يتسلّل عبر الثقافة. إنّ الاستقلال الثقافي هو مُقاوَمة "الوعي الماكر": مقاومة فخّ الثقافة الغربيّة بأدوات الحداثة الغربيّة نفسها، وليس بالعودة إلى التشكّلات السياسيّة ما قبل الحداثة. ولهذا يُمكن القول إنّ فانون هو مؤسِّس نظريّة النقد الثقافي.

انقضّ إدوارد سعيد على "حدوس فانون" وأسّس النظريّة، عاش سعيد مُعاصِراً ومُواطِناً لبرنارد لويس، لهذا صبّ نقده العنيف مباشرةً على المؤسّسة الاستشراقيّة في كِتاب "الاستشراق" (1978) الذي يُمكن اعتباره بيان النقد الثقافي الغربي المُعاصِر من دون مُنازع. تقوم الفكرة الأساسيّة لنظريّة سعيد على ثلاثة حدوس أساسيّة: الأوّل أنّ الاستشراق بوصفه معرفة علميّة، لا يَنقل واقع الشرق كما هو، وإنّما كتخييل، فهي معرفة انتقائيّة تختار من الشرق صوراً ووقائع معيّنة بما يُشبع الذائقة الغربيّة في التمتّع بالغريب والمشوّق والسحري، وبما يحفِّز تلك الذائقة على المزيد من الاستكشاف والاستحواذ وبالتالي الاستعمار، أي أنّ الاستشراق عِلم يَخترع موضوعه أكثر ممّا يصفه. أمّا الحدس الثاني، فهو أنّ الاستشراق يستعمل مقولات كلّيانيّة مجرّدة للقبض على واقع متشظٍّ وغير مُتجانس، ففي الواقع اليومي لا وجود لشرق واحد متشابه، لا وجود لإسلام واحد ولا لعروبة واحدة، فالواقع كثرة متغيّرة ومتعدّدة وصيرورة تاريخيّة يصعب القبض عليها في وحدة الفكر وثبات مقولاته. أمّا الحدس الثالث، فهو أنّ الاستشراق يَنزع دوماً إلى تثبيت المجتمعات الشرقيّة والإسلاميّة، ظاهرة متجوهرة، ظاهرة ماهويّة وميتافيزيقيّة لا يسري عليها التاريخ والزمن والتغيّر، والأنثروبولوجيا المُعاصرة نفسها تفنِّد هذه النظرة. يقول سعيد إنّ كلّ هذه العناصر اجتمعت في كتابات لويس بشكل متكرِّر ومعزَّز بالآلة الإعلاميّة التي سُخِّرت له.

علّق لويس على كِتاب سعيد بقولة شهيرة: "عدا عن سوء النيّة لدى سعيد، فإنّ جهله راعني". ولم يفوِّت أيّ فرصة للشكوى ممّا سمّاه "هَيمنة السعيديّين" (التي أصبحت عقيدة قوميّة بقوّة غير معروفة في العالَم الغربي منذ القرون الوسطى، على حدّ قوله)، حتّى أنّه أنشأ لذلك "جمعيّة دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا"، مع فؤاد عجمي. وبالنسبة إلى سعيد، فإنّ لويس هو نموذج المُستشرِق الخبيث والصهيوني العنيد بامتياز، وظلّت المُواجَهة بينهما مباشرة وصريحة على صفحات الجرائد، وبقي السؤال الأساسي والجذري معلّقاً: هل تبقى الشعوب غير الغربيّة رهينة ثقافتها؟ وبالضبط هل الإسلام هو المسؤول عن حالة المسلمين في هذا العصر؟ وهل يعني ذلك أنّ دخول المسلمين إلى الحداثة مشروط بالتخلّي عن هويّتهم الإسلاميّة؟ هل يريد لويس مسلمين بلا هويّة، مسلمين لاجئين؟

في كِتاب "أزمة الإسلام" (2001) يركّز برنارد لويس على رفض الحداثة في العالَم العربي، فالعرب -حسبه- يتّخذون موقفاً إيديولوجيّاً سلبيّاً من الحداثة، فهم لم يفشلوا في الالتحاق بركبها، لأنّهم لم يحاولوا أصلاً، ويعزو ذلك لتحالفٍ بين القوى الرجعيّة والأنظمة الديكتاتوريّة في الاتّفاق على شَيطَنة الحداثة والعَولَمة إعلاميّاً وسياسيّاً. كما أنّهم يريدون منتوجات الحداثة الغربيّة مفصولة عن شروطها التاريخيّة وقيَمها الكونيّة، وهو الموقف الوحيد الذي يتّفق فيه الحكّام والمَحكومون. فالعرب بحسب لويس يجتمعون كلّهم على "موقف مُنافِق" من الحداثة الغربيّة. وعلى الرّغم ممّا يبدو من وَجاهة على الملاحظات التي يسجّلها لويس على المجتمعات العربيّة، محاولاً تعضيدها ببيانات اقتصاديّة في كِتاب "أزمة الإسلام"، فإنّ للنقد الحصيف أن يسجِّل عليها الكثير من الدّحض، فـ"العرب" أو "المسلمون" ليسوا كتلة اجتماعيّة مُتجانسة، سواء أنثروبولوجيّاً أم سياسيّاً. ثمّة كثير من النضالات والتضحيات التي قامت بها جماعات ومجتمعات وأقليّات عربيّة في طريق الحداثة والحقوق والمساواة، وحقّقت بنضالها مَكاسِب استقلاليّة لا يُمكن للتاريخ، ولا لـ"القدريّة الثقافيّة" أن تراجعها.

بالإضافة إلى اختراع لويس لأطروحة "صدام الحضارات"، فهو مَن اخترع مفهوم "الأصوليّة الإسلاميّة" وروَّج له حتّى أصبح عقيدة سياسيّة في الغرب. ظاهريّاً يبدو أنصار "القدريّة الثقافيّة" أمثال لويس، وأنصار "الأصوليّة الإسلاميّة" على طرفَي نقيض، لكنّهما يتّفقان تماماً في مَقاصد الطرح وشرعيّته: فكلاهما يقول إنّ "الإسلام هكذا" إمّا أن تأخذه بكلّيته وإمّا أن تتركه بحذافيره، وليس ثمّة أيّ باب للإصلاح أو التجديد. وهما، بهذا التحالف الضمني، يسعيان لقطع الطريق أمام القوى الحداثيّة والعِلمانيّة في العالَم العربي، كلاهما يُشرعِن الصرّاع والصدام مع الغرب، الأوّل من باب التفوّق والسطوة، والثّاني من باب الخصوصيّة الثقافيّة والجهاد، الخطابان مُتناقضان، لكنّ الوظيفة الإنجازيّة للخطاب هي نفسها لدى اليمين المتطرّف الأميركي والأصوليّة الإسلامويّة في العالَم العربي: الجهاد أو الاستعمار.

✱ ينشر المقال بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي

✱ أستاذ الفلسفة الغربيّة المُعاصِرة في جامعة قسنطينة 2/ الجزائر