أفكار وآراء

الحـالة السكانية .. ليست دائمــا هدايا ديموغرافية

26 أغسطس 2018
26 أغسطس 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

أن جل السياسات التي تتخذها الدول في شأن تنظيم هذا التدفق السكاني لن يكون له ذلك المردود الإيجابي السريع والفعال، بالقدر المأمول، ولذلك يبقى البديل أن توظف هذه الدفعات السكانية التوظيف الأمثل واستغلال طاقاتها الشابة والفوارة في برامج التنمية المختلفة،

استذكر بكل سرور ما قاله سعادة الدكتور خليفه بن عبدالله البرواني الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للإحصاء حاليا، عندما كان مديرا لمكتب التعداد الوطني بوزارة الاقتصاد الوطني سابقا – في حوار معه نشرته جريدة $؛ على ما أذكر في عام 2008م – قوله: “ إن المعدلات السكانية الحالية مقارنة مع البرامج التنموية، لا تزال معدلات مقبولة، فمعدلات النمو الاقتصادي، أكبر من معدلات النمو السكاني، وهذا أمر جيد، حيث لن يكون هناك ضغط على الخدمات بصورة تدعو إلى النظر في البرامج السكانية التي تأخذ بها بعض الدول، فعلى سبيل المثال - ويقصد هنا السلطنة -: وصل معدل نمو الناتج المحلي 19% في عام 2006م، بينما كان معدل نمو السكان حوالي 6,5 % ، وهو معدل كبير جدا قياسا بالأرقام العالمية” مشيرا الى أن معدلات النمو السكاني في السلطنة على أنها “هدايا ديموغرافية” وعلى خطط التنمية أن تستغل هذه الـ “هدايا” لتعزيز برامج التنمية من خلال استغلال هذه الطاقات الشابة المتدفقة بالعطاء، شريطة أن تلقى هذه الـ “هدايا الديموغرافية” الكثير من التدريب والتأهيل لتكون مساهمتها فاعلة ومؤثرة في واقع التنمية، طبعا اليوم المسافة بعيدة بين هذه الرؤية التي كان يستشرفها سعادته من ذلك الوقت، وبين الواقع اليوم، الذي يشهد الكثير من التغييرات والتحولات، وتأسست الكثير من القناعات، كما شهد ظهور أجيال جديدة تحمل أفكارا نوعية مختلفة كثيرة، تسعى من خلال تأصيل العمل والجهد في ذات المسار الى البحث عن واقع أكثر اتساعا لتحقيق أحلامها، وفق المعطيات على الواقع الذي تعيشه بكل تفاصيله الدقيقة، ووفق مجموع الإمكانيات والأحلام والآمال التي تجيش في أعماقها، والتي ترى أنها الأجدر في توظيفها على الأرض، وهذه الصورة حراك للحالة السكانية بامتياز.

ويحظى هاجس معدل النمو البشري “السكان” عموما باهتمام واسع من جميع دول العالم؛ بلا استثناء؛ ذلك لأنه المعول عليه قيادة الحياة نحو الارتقاء، وهو ايضا الذي قد يدفعها نحو السقوط ، وذلك عبر موازنة دقيقة في مستوى النمو السكاني، ومقابلة ذلك بمعدلات النمو الاقتصادي، حيث تبقى العلاقة بين السكان، وبين الموارد الاقتصادية علاقة عكسية،وليست علاقة طردية، فكلما زاد عدد السكان، كلما شكل ذلك ضغطا مباشرا على الموارد الاقتصادية، لأنه –وكما هو ملاحظ – أنه مع تناقص دخل الفرد يميل هذا الفرد الى زيادة النسل لتعويض الفاقد المادي من خلال زيادة عدد الأبناء العاملين لديه، وهذه الظاهرة معايشة كثير في معظم البلدان النامية، ومن هنا تأتي فلسفة اتخاذ بعض البرامج السكانية كتحديد النسل، أو المباعدة بين الولادات، وإن كانت جل التقارير تشير أن هذه البرامج واجهتها عقبات كثيرة، أقربها عدم اقتناع من قبل أعداد كبيرة من السكان، بالإضافة الى زيادة عدد المعمرين على حساب الأجيال الشابة، أو فتح الحدود لمجموعات المهاجرين من الدول التي تشهد كثافات سكانية غير عادية، وذلك لتعويض هذا النقص في الطاقات الشابة، وهذا يؤثر بصورة مباشرة على برامج التنمية المختلفة التي تحتاج أكثر الى جهد الشباب وأفكارهم، وتطلعاتهم نحو البناءات الجديدة ذات الطابع الإبداعي.

يقول ويل كيمليكا: في كتابه: أوديسا التعددية الثقافية – سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع -. (مترجم) وهو يصف الحالة السكانية في العالم الغربي، ما نصه: “في الماضي كانت كثيرا من الحكومات تأمل أو تتوقع أن الجماعات العرقية غير المسيطرة ستختفي ببساطة من خلال الوفاة أو الاحتواء أو التزاوج. ومن الواضح الآن أن ذلك لن يحدث بسبب ارتفاع نسبة المواليد، وأن السكان الأصليين هم أسرع الفئات نموا في كثير من البلاد التي يوجدون فيها، وتزداد النسبة المئوية للمهاجرين من السكان بسرعة في معظم البلاد الغربية، ويتفق معظم المعلقين على أنه ستكون هناك حاجة الى مهاجرين أكثر في المستقبل ليعوضوا نسبة المواليد المنخفضة وشيخوخة السكان”.

لذلك تشهد المعادلة السكانية ارتباكا واضحا عند طرفيها: فالطرف المثقل بالكثافات السكانية، الناتجة من عدم قدرته على التحكم في هذه الكثافة إما لدواعي اجتماعية وثقافية عند السكان، وإما لعدم قدرة الحكومات على استحداث برامج سكانية تنظم عملية هذه الدفعات المتدفقة من السكان لضعف الإمكانيات، فهذا الطرف من جانبه يعاني من هذه الكثافة ولا يدري كيف يمكن التحكم فيها لسوء إدارة الحكم فيها، واستحضر هنا عند هذه الصورة فقط السؤال الذي طرحه الاستاذ الدكتور سليمان عبدالمنعم أستاذ القانون في كلية الحقوق - جامعة الإسكندرية – في تعليقه على تقرير الأمم المتحدة لعام 2015 World population Prospects الصادر عن شعبة السكان في الأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات من خلال مقالة طويلة تحت عنوان (صورة العرب في أخطر تقرير عن الجنس البشري عام 2050) قال فيها: هذه المقالة هي خاتمة قراءة لأهم تقارير المستقبل السكاني وأخطرها لما يُتوقع أن يكون عليه العالم عام 2050” والسؤال الذي طرحه الدكتور سليمان وهو يشير فيه الى الجانب العربي على جه الخصوص: “هل يبدو مستقبل التضخم السكاني العربي حتمية سلبية نذيرة بالشؤم أم إنه يمكن أن يتحوّل من عائق إلى فرصة؟ لدينا في الواقع تجربة حية ماثلة نطالعها ليل نهار تجسدها الصين التي فعلت ما يشبه المعجزة، فها هي اليوم لا تملك سوى 7 في المائة من مساحة الأراضي الزراعية في العالم وتطعم أكثر من 20 في المائة من سكان العالم وتوفر لشعبها خمسة ملايين وجبة غذاء يومياً. والصين التي منذ مائة عام ونيف لم يكن عدد الذين يعرفون حساب التفاضل والتكامل فيها يتجاوز عشرة أشخاص، هي اليوم الدولة التي أطلقت ثلاث مرات سفن فضاء مأهولة وأصبحت مصنع العالم وفق ما يقُال. ما زال العرب قادرين إذاً على تحويل معضلتهم السكانية إلى فرصة على رغم أن سؤال القدرة لا يكتمل بغير سؤال الإرادة”.

وأما الطرف الآخر الذي تتجاوز فيه معدلات الكهولة أرقامها القياسية المقبولة، انعكاسا للبرامج السكانية التي تنفذها في بلدانها، هي؛ في المقابل؛ أيضا ليست بمعزل عن المعاناة السكانية نتيجة لذلك، وفي كلا الطرفين هناك؛ ربما؛ سوء تخطيط، أو سوء تقدير، أو اجتهاد في غير محله، أو عدم الاكتراث بحجم المعاناة المتوقعة، والمعايش بعضها، أو عدم وضوح الرؤية بالنسبة للسكان في بلدانهم، نتيجة لتحفظ الحكومات عن إشراك السكان في مثل هذه البرامج السكانية، وإنما اتباع سياسة الأمر الواقع، وفرض برامج سكانية وتنموية على السكان بقوة الأمر والقانون، هذه كلها من شأنها أن تربك العملية السكانية الى حد كبير، وتظل المعاناة قائمة، ويتحملها أكثر طرفين في هذه المعادلة هما الحكومة والفرد الضعيف ماديا، فلا الحكومة قادرة على تلبية المتطلبات الأساسية للسكان، ولا الفرد الضعيف ماديا قادرا على حماية نفسه من جملة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية بنفسه.

بلغ “عدد سكان العالم في عام 2015 كما يثبت التقرير (7) بلايين و(350) مليون نسمة، ويتوقع أن يصل عام 2050 إلى (9) بلايين و(730) مليون نسمة” وفي شقه العربي “يبلغ سكان الدول العربية حالياً (374) مليون نسمة وفقاً لتقدير عام 2015 لشعبة السكان في الأمم المتحدة (إذ يبدو أن هناك تقديرات أخرى متفاوتة قليلاً) فالمتوقع أن يصل هذا العدد إلى 686 مليون نسمة بحلول عام 2050” - وفق المصدر السابق -.

أختم هنا الى أن جل السياسات التي تتخذها الدول في شأن تنظيم هذا التدفق السكاني لن يكون له ذلك المردود الإيجابي السريع والفعال، بالقدر المأمول، ولذلك يبقى البديل أن توظف هذه الدفعات السكانية التوظيف الأمثل واستغلال طاقاتها الشابة والفوارة في برامج التنمية المختلفة، وهذا التوظيف لن يكون إلا من خلال التدريب والتأهيل والتوظيف الحقيقي في برامج التنمية، ولعل المثل الصيني الذي جاء خلال المناقشة أعلاه، أكبر دليل وأنصع حجة، على الذين ينظرون في المسالة السكانية، وعلى أنها مسألة معقدة ولا أمل في حلول جذرية لها.