أفكار وآراء

زيارة بوتين لألمانيا .. تثير قلقا في واشنطن

25 أغسطس 2018
25 أغسطس 2018

إميل أمين -

كاتب مصري -

[email protected] -

هل كانت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى ألمانيا ولقائه مع المستشارة الأمريكية أنجيلا ميركل دافعا لقلق في واشنطن من جراء التقارب بين موسكو وبرلين؟

الذين تابعوا المؤتمر الصحفي الذي عقد في ختام الزيارة استمعوا الى أحاديث عمومية عن تعاون ألماني روسي من اجل حل الأزمات الدولية مثل الأزمة في سوريا او أوكرانيا وعودة اللاجئين ، وكذا إنهاء الصراع الدائر بين الانفصاليين المدعومين من روسيا وبين القوات الحكومية في شرق أوكرانيا ، ولم يغب الملف الإيراني من على طاولة المحادثات الثنائية سيما وان ألمانيا وروسيا يرفضان الانسحاب الامريكي من الاتفاق النووي مع إيران ، ويصران على ضرورة بقاء الاتفاق لانه يمثل الخيار الصواب في تقديرهما تجاه التعاطي مع الحكومة الإيرانية .

على ان السؤال الواجب طرحه ..هل كان هذا هو الهدف الحقيقي من زيارة بوتين الى ألمانيا ؟

الشاهد انه لا يمكننا الجواب على السؤال المتقدم دون الوقوف على حالة العلاقات الامريكية الروسية من جهة ، والامريكية الألمانية من جهة ثانية.

ففيما يخص العلاقات بين موسكو و واشنطن نجد انها تعيش أسوأ حالاتها بعد فرض العقوبات الامريكية الجديدة على روسيا ، وقد بلغت حدا من السوء فاق في بعض الموضوعات ما كان حادث من قبل في زمن الحرب الباردة ، بل ان الأسوأ ربما يكون في الطريق بينهما ، إذ الجميع يدفع في اتجاه تكثيف العقوبات على موسكو بدعوى انها تسببت في اختراق الانتخابات الرئاسية الامريكية الفائتة ، وبات الكل مترقبا انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل ، وهل ستكرر روسيا اعمال التدخل التي يزعمها الامريكيون ، وعندها ستأخذ العلاقة منحى أكثر سوءا .

وفي كل الاحوال فان الرئيس الروسي يجد نفسه مؤخرا امام امريكا برأسين ، ولا يدري مع من يمكنه التنسيق ، بمعنى انه وجد في الولايات المتحدة الامريكية رئيسا يفضل التفاهم مع الروس عن المواجهة ، ويسعى الى رأب التصدعات التي حدثت في زمن سلفه باراك اوباما .

غير ان الراس الثاني يتمثل في عدد وافر من كبار المسؤولين الامريكيين البارزين عطفا على نفر كثير من اعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الذين يسعون في طريق فرض عقوبات جديدة على روسيا .

وفي موسكو ولد هذا التذبذب في السياسة الامريكية حيرة وغضبا مع تعثر الكرملين في الرد. ومن المتوقع ان يكون لعقوبات اغسطس ، التي تستهدف بعض السلع الروسية ، تاثير ضئيل لان مثل هذه التجارة متدنية جدا ، لكن العقوبات المصرفية التي يهدد بها مجلس الشيوخ اكثر جدية بكثير .

ويرى بعض المحللين الروس ان العقوبات المخففة التي تصدر عن وزارة الخارجية تبدو كمحاولة من جانب البيت الابيض للتخلص من جولة جديدة اكثر ضرر ، وكي يبدو ترامب الاكثر تشددا حيال روسيا قبل الانتخابات النصفية السابق الاشارة اليها .

ولعل الاجراءات العقابية الامريكية سواء كانت اقتصادية او سياسية انما مرجعها ومردها الرئيسي هو الخوف من الصحوة الروسية التي يقودها بوتين ،وكان الرجل في خطاب الأمة في الأول من مارس المنصرم قد اعلن عن نوعيات جديدة من الاسلحة ، البعض منها اقض مضاجع الامريكيين ، وقد عرض الروس بعض صورها مثل الصواريخ الفرط صوتية ، اما الأنواع الاخرى من الصواريخ الباليستية الروسية الجديدة ، فقد اصابت الامريكيين بحالة من القلق وفي المقدمة منها الصاروخ المعروف باسم “ سارامات “ والذي يحمل عشرة رؤوس نووية ، وقادر على تدمير عدة اهداف امريكية دفعة واحدة ، والاسبوع الماضي قال الروس ان محادثاتهم مع الامريكيين الخائفين من هذا الصاروخ اشبه ما تكون بحوار بين جماعتين من البشر واحدة صماء واخرى عمياء ، اي انه لا فائدة ترجى من النقاش .

في وسط هذه الاجواء يضحى من الطبيعي جدا ان ينظر الروس الى الامريكيين نظرة مليئة بالتشكك والخوف ، بل واسترجاع عالم الاحقاد الدفينة التي كانت سائدة للمشهد بين الجانبين في زمن الحرب الباردة ، وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي العام 1990 .

وعلى الجانب الالماني الامريكي وان كان المشهد بدون شك اقل سخونة من جهة المجابهات العسكرية لكنه مضطرب بشكل غير مسبوق منذ سقوط النازية وقيام علاقة سوية بين الامريكيين والألمان .

على انه ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي اضحت الرؤية الامريكية لألمانيا الصاعدة بقوة من جديد بها بعض الشكوك ، وربما كان هذا احد الاسباب التي قادت الامريكيين في عهد اوباما للتجسس على الهاتف الشخصي للمستشارة الالمانية ميركل عبر القضية التي عرفت وقتها باسم برنامج “ بريزم “ الذي تنصت على اتصالاتها المحلية والدولية .

مخاوف الامريكيين من الألمان تتمثل في عودة المانيا اليوم لتضحى القاطرة الاقتصادية والسياسية وعمود الخيمة الاوروبية ، سيما وان المسافة بينها وبين لندن وباريس واسعة ، وذلك من جراء التقدم الصناعي والاقتصادي الالماني الذي جلب للدولة الاوروبية الكبرى فوائض مالية بمليارات الدولارات ، ما فسره البعض في الداخل الامريكي بانه يفتح الابواب واسعة لنشوء وارتقاء المانيا الاوروبية القوية جدا والتي يمكن ان تعيد تجربتها في ثلاثينات القرن العشرين وان بصورة اخرى .

من بين المشاهد التي تبين حالة التوتر المكتوم بين واشنطن وبرلين في العقدين الماضيين ، رفض الولايات المتحدة اعادة الاحتياطي الذهبي الالماني المودع منذ زمن الحرب العالمية الثانية في بنك الاحتياط الفيدرالي الامريكي ، الأمر الذي جعل الألمان قلقين من توجهات الامريكيين مستقبلا .

وفي وسط تلك المقدمات ظهر على الساحة الامريكية رئيس اعلن مباشرة رفضه لشكل العلاقات الامريكية الالمانية الحالية ، وهو هنا لم يكن يحاجج بشأن المسائل او القضايا السياسية بقدر اهتمامه كرجل صفقات بالقضايا المالية ، وكل همه تحقيق الوفرة الاقتصادية لامريكا من جديد ، واعادة الحلم الاقتصادي الامريكي الى سابق عصره .

منذ الانتخابات وطوال نحو عامين في سدة الرئاسة الامريكية كان ترامب يندد بالميزان التجاري بين واشنطن وبرلين ويرى ان هناك حالة من الاجحاف واللاعدالة اذ يشتري الامريكيون على سبيل المثال السيارات من الالمان ، في حين لا يفعل الالمان العكس .

تاليا كانت المواجهة بين امريكا والمانيا من منطلقين الاول يتعلق بالناتو ورغبة ترامب المساهة الالمانية المالية بدرجة اكبر بكثير مما هو الوضع الآن ، ورفض استمرار تحمل امريكا للعبء الاكبر من موازنة الناتو .

اما الاشكالية الثانية والتي تتقاطع فيها العواصم الثلاث محل النقاش اي موسكو وواشنطن وبرلين ، هي قضية استيراد الغاز السائل من الروس ووصوله الى الالمان ، ما دعا ترامب خلال قمة الناتو الاخيرة للتندر على الألمان وبقية الدول الاوروبية المشاركة في هذا المشروع بالقول ، اننا ندفع لهم مليارات الدولارات لتوفير الحماية من الروس ودباباتهم وطائراتهم ، في حين يمضي الاوروبيون لشراء الغاز من الروس في اشارة لا تخطئها العين للمشروع المعروف باسم “ سيل الشمال -2”.

لم يكن الألمان ليقفوا صامتين طويلا امام هذه الرؤى والتصريحات الامريكية الترامبية ان جاز التعبير ولهذا تحدث وزير الخارجية الالماني “هايكو ماس” نهار الاثنين 16 يوليو المنصرم بالقول انه لم يعد بوسع اوروبا الاعتماد على الرئيس الامريكي ترامب ، وانه حان الوقت الذي تجمع فيه اوروبا صفوفها لمواجهة رئيس امريكي يعتقد ان اوروبا خصم تجاري لامريكا رغم شراكة الناتو .

من جهتها اعترفت المستشارة الالمانية ميركل امام البرلمان الالماني “ البوندستاج “ بوجود خلافات حقيقية مع امريكا ، فيما جابهت تصريحات ترامب بقوة ، وخلال قمة الدول الثماني الكبار في كندا بات واضحا ان الخلاف جوهري بين اوروبا عامة وامريكا وبنوع اكثر تخصيص بين المانيا وامريكا .

ورغم الخلافات الامريكية الالمانية الا ان الألمان حاولوا اظهار انفسهم بمظهر الوسيط الحكيم بين الطرفين فبعد يوم واحد من قمة هلسنكي بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره الروسي بوتين دعا وزير خارجية المانيا البلدين للمزيد من الحوار فقال “ماس “ لمجموعة “ ار ان دي “ الاعلامية الالمانية :” من المهم ان تتحدث امريكا وروسيا كل منهما مع الاخرى “، واضاف “ لا نستطيع تحمل صمت موسكو وواشنطن تجاه سوريا واوكرانيا “.

واضاف :” ان الحوار ضروري من اجل العلاقات الدولية ، بجانب المصداقية والتجانس والعمل الجاد ، حتى بعيدا عن الاضواء .

غير ان هذه التصريحات لم تطمئن قلب الامريكيين وعلى راسهم ترامب ، فما يجري من تعزيز للعلاقات بين برلين وموسكو تعتبره واشنطن مقدمة خطيرة للغاية على صعيد محتمل ولو في المدى المتوسط او البعيد يرتبط بفكرة قديمة لخلق كيان جغرافي وديموغرافي واسع يعرف باسم اوراسيا ، اي اتحاد الدول المطلة على البحر المتوسط غربا ، وصولا الى جبال الاورال شرقا ، هذا الاتحاد قد يبدأ اقتصاديا ولا يدري احد ان كان سيتطور الى صيغة اخرى في المستقبل .

من هنا يمكن للمرء تفهم تصريحات زعيمة حزب اليسار الالماني “ سارة فاغنكنشت “ من ان امريكا تخشى من توحيد الموارد الروسية مع التقنيات الالمانية وهم على حق في ذلك . وتضيف :” ان الولايات المتحدة تنتهج سياسة الدفاع عن مصالحها الخاصة ، ومع وصول ترامب لجأت الى اساليب عدوانية . مصالحهم تتناقض مع اوروبا في اهم القضايا ، وليس فقط في القضايا الاقتصادية . ومن خلال حروبها من اجل الموارد ، زعزعت الولايات المتحدة استقرار الشرق الاوسط ، ومازالت تفعل في ايران . في نفس الوقت تدفع اوروبا ثمن ذلك اولا . يجب علينا الا نطيع سياسة تتعارض مع مصالحنا “، هكذا انهت زعيمة حزب اليسار الالماني تعليقها .

هل يفهم مما تقدم ان لقاء بوتين وميركل كان يحمل هدفا اكثر أهمية وخصوصية بل وسرية ويتعلق بتوحيد الجهود الالمانية الروسية للرد على الامريكيين كما اشارت بعض المصادر الالمانية ؟

اغلب الظن ان ذلك ليس مستبعدا ، ومن هنا يمكن القطع بان تحولا جيوبوليتيكيا عالميا قد يكون في الطريق ، تحول سوف يفرز صورة لعالم آخر مغاير غير المعروف منذ نهايات الحرب العالمية الثانية اولا ، ومختلف عن ذاك النظام العالمي الجديد الذي وصفه بوش الاب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بانه النظام العالمي الجديد ثانيا ، وفي كل الاحوال تعلو الاصوات الآن امريكيا بان تصرفات ترامب المالية والتجارية تلحق الضرر بالاصدقاء قبل الاعداء .