المنوعات

في ذلك اللّقاء الخاصّ مع توفيق الحكيم

21 أغسطس 2018
21 أغسطس 2018

أحمد فرحات -

قيل: إنّ الإعلامي الكبير محمّد حسنين هيكل هو الذي خصَّص في مبنى صحيفة «الأهرام» الجديد في القاهرة (منذ حوالى 40 عاماً) غرفاً /‏‏ مَكاتب خاصّة بكِبار أدباء مصر ومفكّريها أمثال: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وعائشة عبد الرّحمن (بنت الشاطئ) وعبد الرّحمن الخميسي ويوسف جوهر وغيرهم... وقد شكَّل هذا الأمر وقتها تقليداً احتفائيّاً، هو الأوّل من نَوعه تلجأ إليه مؤسَّسة إعلاميّة مصريّة عريقة تعتزّ برموز إبداعيّة من بلدها، ليس على المستوى العربي فقط وإنّما على المستوى الدولي أيضاً.

لقد كان لي شرف لقاء توفيق الحكيم، الأديب والمفكّر المصري الكبير في مكتبه الذي خُصّص له في «الأهرام» في (مايو) من العام 1980. وهو في المناسبة مَكتب وثير وأنيق، تتصدّر جدرانه مكتبة خاصّة بالحكيم، تحوي كُتباً فاضت عنها مكتبته المنزليّة كما قال لي. ولقد تحوَّل هذا المَكتب إلى محجّة لأصدقائه وزوّاره من أدباء ونقّاد ومثقّفين، من داخل مصر وخارجها. وأنا من الذين شهدوا شخصيّاً وفداً أدبيّاً ألمانيّاً جاء خصّيصاً من برلين لزيارة صاحب «عودة الروح» ومناقشته في إمكانيّة نقل تراثه الأدبي والفكري والمسرحي إلى اللّغة الألمانيّة.

من جانب آخر، كان من الصعب عليّ شخصيّاً أخذ مَوعد سريع من «العمّ توفيق» لإجراء حِوار صحفي معه، لولا تدخّل الناقد الصديق د. لويس عوض، فأجندة مواعيد الحكيم مزدحمة دائماً ومُبرمَجة سلفاً. وعليه شاورت الصديق لويس بالأمر، بخاصّة أنّ أيّام زيارتي للقاهرة وقتها أوشكت على الانتهاء، فما كان منه، وأنا الجالس أصلاً في مكتبه في «الأهرام»، إلّا أن قادني بيده إلى مَكتب الحكيم المُجاوِر لمكتبه قائلاً للعمّ توفيق بالفم الملآن: هذا صديقي.. شاعر وإعلامي من بيروت، وهو قارئ صميمي لنِتاجك الأدبي والفكري؛ وعليك، بالتالي، أن تهتمّ به، وتلبّي طلبه، بخاصّة لجهة تعيين موعد سريع له لإجراء حوار معكَ.

رحّب بي توفيق الحكيم أيّما ترحيب، وسألني عن أحوال الحرب في لبنان ومتى ستنتهي هذا الجائحة الخطيرة التي حلّت ببلد له مكانة خاصّة في عقلي وقلبي؟؛ أجبته وقتها إنّها حرب أهليّة يتداخل فيها الإقليمي بالدولي على نحو مباشر وخطير، ولا يضع حدّاً لها، في المقابل، إلّا الإقليمي والدولي عينه. وبعدما استفسر عن المنبر الذي سينشر فيه الحوار المُرتقَب معه، ووافَق عليه، وزكّاه يومها في (أسبوعيّة «الكفاح العربي» اللّبنانيّة)، اشترطَ عليّ أن أعدّ له الأسئلة مسبّقاً، وشدَّد على شرطه هذا، وخصوصاً بعدما كنتُ أَخطرته برغبتي في أن يكون الحوار عفويّاً وسجاليّاً. كرّرتُ رغبتي ثانية، غير أنّه ظلّ مُصرّاً على موقفه، وكان له ما أراد في النتيجة. وأعددتُ له عشرين سؤالاً جئته بها في اليوم الثاني، وبعد قراءته لها، دعاني لأخذ الردود عليها بعد ثلاثة أيّام. وفي اليوم الثالث حضرتُ إلى مكتبه في «الأهرام»، وكان استقباله لي أكثر ودّاً وترحاباً، وقال إنّه أُعجب جداً بالأسئلة، ولذلك ردّ عليها جميعاً، وتمنّى عليّ عند النشر ألّا تُحذف أيّ جملة أو حتّى كلمة من كلماته. شكرته بالطبع على تجاوبه وإشادته بالأسئلة، ووعدته بألّا يُحذف شيء من إجاباته، وخصوصاً أنّ بيروت عاصمة الحريّات الإعلاميّة على المستوى العربي، وعليه لا «تابوات» سياسيّة أو حتّى أخلاقيّة على كلّ ما يقوله في صحافتها.. وعلّقتُ في النهاية مُخاطباً إيّاه: إنّ توفيق الحكيم كاتِب كبير، وهو في الأخير مَن يتحمّل مسؤوليّة كلامه تجاه قرّائه وكلّ من يعنيهم الأمر.

ولمّا همّ بإعطائي أوراق الأجوبة المكتوبة بخطّ يده، سألني «العمّ توفيق» من فَوره: وأين هو المبلغ المالي الذي ستدفعه لي نظير إجابتي عن أسئلتك هذه.. أريد منك مبلغ ألف دولار أمريكي؟. أجبته وأنا في حالة ذهول: لقد باغتني طلبك هذا يا سيّدي. لم أكُن أفكّر في الأمر مطلقاً، وأساساً إنّ إجمالي ميزانيّة إقامتي في القاهرة (عشرة أيّام)، بما فيها الفندق، لا تتعدّى الـ1500 دولار أمريكي، فكيف لي أن ألبّي طلبك المذكور هذا؟ آسف يا سيدي.. أعذرني أرجوك.

وخرجتُ من مكتبه بتثاقل وبطء، ظنّاً منّي أنّه سيناديني ويسلّمني الأوراق في نهاية المطاف، لكنّه لم يفعل ولم يكترث أساساً بكلّ ما قدَّمت له من تبريرات ضاغِطة ومُلزِمة.

بعدها اتّجهتُ مباشرةً إلى مكتب د. لويس عوض في «الأهرام»، وشرحتُ له ما جرى، فقامَ الرجل من فوره وصحبني إلى مكتب الحكيم وخاطبه قائلاً: «بتعمل إيه يا ابوسماعيل، ما يصحّش كده؟! .. صديقي جاء من بيروت خصّيصاً لمقابلتك، فكيف تردّه خائباً؟..» أجاب الحكيم (بينما كان د. لويس قد بدأ يقبض على رزمة أوراق الحوار المرميّة على طاولة الحكيم ويسلّمها إليّ أمام عَينيه): «لا.. لا.. أنا لا أريد لصديقنا اللّبناني أن يعود إلى بلده خائِباً، بدليل أنّني أجبتُ عن أسئلته، ولكن عليه أن يعرف أنّني من المُطالبين بحقوقهم الماديّة عن سائر اللّقاءات الإعلاميّة التي تُجرى معي، وخصوصاً من طَرف الإعلاميّين الذين يأتون من الخارج.

وأنا كنتُ فعلاً من العارفين بأمر الحكيم الماديّ هذا، لكنّني استهولت طلبه مبلغ ألف دولار وقتذاك (1980)؛ وهو مبلغ يساوي ما قيمته 8000 آلاف دولار اليوم، إن لم يكُن أكثر، الأمر الذي لم تتحمّله وقتذاك الميزانيّة الخاصّة بالمهمّة الصحفيّة المُنتدَب إليها.

كما أعرف أيضاً أنّ توفيق الحكيم (وهذا أمر شائع عنه ومُتداوَل على أيّ حال في الإعلام المصري والعربي) هو شخصيّة مقتّرة واقتصاديّة للغاية، وقد فلسف تقتيره هذا بجرأة لافِتة أكثر من مرّة.

لكنْ في المحصّلة، ومهما يكُن من أمر، فإنّك واجدٌ نفسكَ تغفر لتوفيق الحكيم كلّ هفواته الماديّة والاقتصاديّة، وخصوصاً عندما تجلس في حضرته وتَستمع إلى حديثه. فهو شخص ذو كاريزما عالية مُهابة، منظَّم جدّاً، أنيق جدّاً، وخصوصاً بـ«الباريه» الصيفيّة البيضاء على رأسه والعصا السوداء التي لا تُفارق يده النحيلة. يصغي أكثر ممّا يتكلّم، يحترم رأي محدّثه، بل ويستفيد من هذا المتحدّث، ولا يَجد غضاضة في إعلان ذلك. وعندما يتكلّم الحكيم، تراه يَزِن كلّ كلمة يقولها، وفي أيّ موضوع جدّي يُطرَح أمامه، هكذا دونما حشو أو استطرادات لا لزوم لها.

والدردشة المُباشرة التي جرت بيني وبينه، في الأدب والحياة ومصر والعرب، كانت شاهدة على ذلك (خارج دائرة الأسئلة والأجوبة التي تمّ نشرها). وهي دردشة جرت وقائعها -في المناسبة- على مائدة د. لويس عوض في ما بعد، حيث كان دعا إليها الحكيم، ودعاني بالطّبع، في ما يشبه رد الجميل لأديبنا الكبير والوقوف على خاطره بشأن كلّ ما جرى.

وممّا أتذكره من تلك الدردشة الثقافيّة مع توفيق الحكيم، أنّني وبعد سؤالي له عن هذه الأرستقراطيّة الفكريّة والثقافيّة التي كان يتمتّع بها مع بعض أفراد جيله من كبار كتّاب مصر اللّيبراليّة آنذاك: طه حسين، حسين فوزي، زكي نجيب محمود وغيرهم.. وغيرهم، أجاب: وهل ترانا نرضى أن تدخل مصر «العصر الشكوكي» (نسبةً إلى الممثّل والمونولوجيست المصري محمود شكوكو) التسطيحي للثقافة ونَسكت على ذلك؟!... نعم، لم نكُن نأمل من المرحلة الناصريّة أن تتسبّب في فشو الكثير من الفنّ الهابِط والأدب الاستسهالي، وفوقهما ثقافة خطابيّة لا طائل منها.

ولكنّك كُرّمت من تلك المرحلة الناصريّة التي تنتقدها. مُنحتَ قلادة النيل، وكُنتَ تدخل على عبد الناصر بلا مواعيد، ولم يُصادِر لكَ كِتاباً، أو تُستدعى إلى مُحاكمة على رأي قلته أو كلامٍ دوَّنته؟.. سألتُه فأجابَ بالحرف الواحد: «على ما يبدو عبد النّاصر كان يخشى صوت الأدباء والاحتجاجات التي ستحصل بعد التضييق عليهم أو مُصادَرة كُتبهم؛ وفضَّل، من هذه الناحية، عدم الاكتراث بتقارير مُخابراته. وحدسي يقول لي إنّ الأستاذ محمّد حسنين هيكل هو الذي كان يقف وراء هذا كلّه. كان هيكل باعتقادي ينصح عبد النّاصر بعدم اتّخاذ أيّ موقف سلبي من أيّ كاتِب مصري ذي شأن، مهما ارتفع صوته المضادّ. وكان عبد النّاصر يستجيب لذلك، وربّما عن قناعة أيضاً».

ألهذا السبب إذاً رثيتَ عبد النّاصر وذرفتَ عليه الدموع، كما قلتَ في أحد لقاءاتكَ؟. أجابَ: نعم، موته كان مؤثراً عليّ وعلى كثيرين من زملائي الكتّاب في مصر، وخصوصاً أنّه رحل بظروف غامضة لم يُكشف النّقاب عنها، وبشكلٍ يقيني حتّى الآن.

ولمّا انتهى من الكلام على عبد النّاصر، سألني توفيق الحكيم على الفور: وما هو مفهومك أنتَ للأرستقراطية الفكريّة والثقافيّة التي صدّرتَ بها سؤالكَ لي؟ أجبته إنّها تعني الأدب الرفيع والجدّي في مُخاطبته الوعي العميق في الآخرين. وعليه فإنّ كلامي عليها في السؤال، ليس مثلبة أو نقيصة أبداً. هزّ الحكيم رأسه مبتسماً ثمّ قال: ظننتكَ يساريّاً، فاليساريّون، على وجه الإجمال، يتحسّسون من مصطلح الأرستقراطيّة، تراهُم يلعنونه ويرذلونه.. ونجحوا على أيّ حال في شَيطنته.

لستُ يساريّاً ولا يمينيّاً يا سيّدي، أجبته وأردفت: أنا رجل مستقلّ، ومستقلّ فعلاً. وقبل أن أكمل كلامي الشارح، قاطعني هو قائلاً: نصيحتي لك أن تبقى مستقلّاً على وجه الإجمال؛ غير أنّ الاستقلاليّة لا تعني، في المقابل، الإحجام عن معرفة الآخرين وخطاباتهم السياسيّة والفلسفيّة والفكريّة في وجه عامّ.

وإلى أيّ حدّ تَعتبر نفسكَ مُستقلّاً، أنتَ توفيق الحكيم الذي إذا ما قال رأياً أو آمَن بفلسفة، حرَّك جوّاً وأَحدَث عَصفاً فكريّاً هائلاً؟

أجابني: لديّ فلسفة واحدة أعتقد بها وتشغفني باستمرار، هي الحريّة.. نعم الحريّة لي وللآخرين، ودائماً في حدود العيش المُسالِم الذي من شرطه أن يقوم على قاعدة الاختلاف، فالاختلاف دليل حيويّة وتعقّل، وهو، في الحقيقة، كلّ ما يلتمع في الإنسان من ذكاءٍ وسدادٍ وحصافة.

وماذا علّمتك الحريّة على وجه الإجمال يا سيّدي؟ أجاب: علّمتني في خلاصاتها أنّ الإنسان، أيّاً كان جنسه أو مُعتقده، هو محبّة أوّلاً، ثمّ من بعد ذلك هو ما يندّ عنه من فكر وعمل. كما علَّمتني أن أفهم أكثر درس كونفوشيوس القائل إنّ الإنسان الكبير الرفيع لا يُثير نزاعاً، إنّما يتنافس في الرماية فقط، فإذا ما تفوّق، يهدي كأسه لخصمه.

هل أنتَ كاتب وجودي في نهاية المطاف؟ أجاب: لا.. لا.. أنا من الكتّاب الذين يرفضون أن تصبح الحياة انعكاساً للمعرفة عن الحياة، ويرون بأنّ الحياة هي انعكاس للحياة نفسها.

وما ردّك على القائلين بأنّك كاتِب مُكابِر وساخِط على الحياة والعالَم وسائر العلاقات الاجتماعيّة من حولك؟.. هنا حدّق بي توفيق الحكيم مليّاً واكتفى بهذه الإجابة: حقّاً نحن العرب لن نشفى من أمراضنا المُزمنة، حتّى ولو شفينا.

*مؤسّسة الفكر العربي