أفكار وآراء

هل تنجح أوروبا في تصحيح السياسة الأمريكية؟

18 أغسطس 2018
18 أغسطس 2018

د. عبد العاطى محمد -

اختارت أوروبا أن تتعامل بدبلوماسية واعتدال مع قضايا الشرق الأوسط الساخنة، بينما تمضي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التعامل مع هذه القضايا بتشدد لا يخلو من التهديد باستخدام القوة العسكرية. وقد اتجهت أوروبا لخيار الاعتدال نتيجة استيعابها الإيجابي للدروس من رياح التغيير التي هبت على المنطقة في السنوات الأخيرة، وثقتها العالية بالنفس بفعل ما أحرزته من تقدم اقتصادي، وأما ما يدفع الولايات المتحدة للتشدد فهو سباقها لاستعادة قيادتها للعالم بعد أن تراجعت مكانتها اقتصاديا وسياسيا بل وعسكريا.

لقد ساد الاعتقاد لدى البعض أن أوروبا لا تستطيع أن تخرج من النفوذ الأمريكي المؤثر على صياغة سياستها الخارجية وتحديدا في الشرق الأوسط لدرجة أن رأى هؤلاء أنها تنتهج دائما سياسة تابعة للسياسة الأمريكية. واستند أصحاب هذا الاعتقاد إلى حاجة أوروبا للولايات المتحدة طوال فترة الحرب الباردة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وبالنظر لاستمرار هذه الحاجة بعد تلك الفترة في ظل عدم اليقين من مدى نجاح الولايات المتحدة في الانفراد بقيادة العالم. ولكن الأوضاع تغيرت خلال السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت صعودا قويا من جانب روسيا هدد بالفعل مكانة الولايات المتحدة عالميا، وبرزت الصين عملاقا اقتصاديا لا يتحكم إلى حد كبير في التجارة العالمية فقط، بل في الأوضاع الاقتصادية الأمريكية، كما برزت أوروبا قوة اقتصادية عملاقة أيضا في وجه الولايات المتحدة، ولم تتردد القارة العجوز في الاستفادة من تغير موازين القوى العالمية بأن اتجهت إلى تقوية علاقاتها التجارية مع كل من الصين وروسيا حتى لو أغضب ذلك الحليف الأمريكي. وعندما اختبرت أوروبا الدور الأمريكي ومدى مساندته لقضاياها خصوصا الأمنية والسياسية اكتشفت تواضعه أو عدم اكتراثه بهذه القضايا. حدث ذلك في حالة إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم واقتطاعها من أوكرانيا دون أن تقوى الولايات المتحدة على منعها من هذه الخطوة. وكانت أوروبا تتوقع موقفا أمريكيا مختلفا. ولم تتجه أوروبا إلى التضحية بعلاقاتها مع روسيا بسبب هذه المشكلة نظرا لحاجتها للغاز الروسي. وأما الحدث الثاني الذي عزز شكوك أوروبا في مدى مصداقية الدعم الأمريكي لمواقفها فهو المتعلق بالحالة السورية، فبينما سايرت أوروبا الموقف الأمريكي المتشدد من نظام الأسد وتأملت أن ينتقل الموقف من الكلام إلى الفعل، سرعان ما اتضح أن الولايات المتحدة ليست مستعدة حقا لتغيير الأوضاع في سوريا في اتجاه ما كانت أوروبا تأمله. لقد أحدثت المواقف الأمريكية المتخاذلة تجاه أوروبا صدعا في العلاقات ما كان يمكن تفاديه حتى وصل الحال إلى الخلاف المكشوف والحاد بين القيادات الأوروبية والقيادة الأمريكية في عهد ترامب، وتابع الرأي العام وعلى الهواء مباشرة التلاسن بين هذه القيادات وتوجيه اللوم كل تجاه الآخر وسط حالة من الذهول مما صدر من حلفاء تجاه بعضهم البعض، يفترض أن يتعاملوا بلغة ومواقف لا تعبر إلا عن الصداقة والتحالف.

ومما أفرزه هذا الصدع في العلاقات الأوروبية الأمريكية، والذي جاء نتيجة ظروف موضوعية بالدرجة الأولى تتعلق بالقراءة الجيدة لأوروبا لمصالحها الحيوية وقدراتها الاقتصادية الصاعدة بقوة، هو حدوث مراجعة من جانب أوروبا لسياستها تجاه القضايا الساخنة في الشرق الأوسط، وظهر ذلك في الموقف من مسيرة السلام في المنطقة، والملف الإيراني، والعنصرية. وقادت هذه المراجعة إلى أن القيادات الأوروبية بدأت تتعامل بسياسات تستند إلى الدبلوماسية والحوار والاحتواء وليس إلى الضغوط والتدخل لتغيير الأنظمة ولا إلى التهديد بشن الحروب العسكرية. وقد أحرزت هذه السياسة نجاحا تمثل في عدم توريط أوروبا في مستنقع أزمات المنطقة، ولا في إمكانية المشاركة في أعمال عسكرية لتغيير الأنظمة السياسية القائمة، ومن جهة أخرى كبح جماح الاندفاع الأمريكي لتصعيد حدة الأزمات وخلق أجواء مواجهات مسلحة. وعلى الصعيد العالمي تعززت علاقات أوروبا الخارجية خاصة مع روسيا والصين مما انعكس في تعزيز قوتها الاقتصادية. ولم تستطع إدارة ترامب إثناء أوروبا عن هذه السياسة مما يعد في ذاته نجاحا إضافيا، بل ظهرت مؤشرات على تراجع إدارة ترامب متأثرة بأوجه الصد الأوروبية.

ومن المعروف أن أوروبا لم توافق على قرار إدارة ترامب نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس وأعربت عن هذا صراحة من خلال مجلس الأمن وردود الفعل التي صدرت منها بعد هذه القرار. وأعادت التأكيد على أنها مستمسكة بالقرارات الدولية الصادرة من مجلس الأمن بخصوص إحلال السلام في الشرق الأوسط، وكذلك الاعتداد فقط بحل الدولتين ورفض التصرفات الأحادية الجانب. واتخذت أوروبا هذا الموقف برغم ثقتها بأنه سيغضب الحليف الأمريكي وكذلك إسرائيل، بما يعنى أنها أرادت توصيل رسالة لهذا الحليف بأنها صاحبة سياسة مستقلة، وأن تأييدها للمواقف الأمريكية ليس مجرد شيك على بياض، بل مشروط بالاتساق مع المواقف الأوروبية المبدئية. وفي أزمان سابقة كان لأوروبا مواقف معلنة مشابهة ولكن كان ينظر لها على أنها مواقف مبدئية بلا فاعلية وأنها لا تمنع الإدارات الأمريكية من تطويع المواقف الأوروبية عمليا بما يجعلها متطابقة دائما مع المواقف الأمريكية، ولكن وفقا لما هو قائم الآن فإن واشنطن لا تستطيع تطويع الموقف الأوروبي عمليا.

ومعلوم أيضا أنه عندما وصل ترامب إلى البيت الأبيض كان من أول قراراته منع مواطني 6 دول ذات أغلبية إسلامية من دخول الولايات المتحدة بحجة أن هذه الدول يمكن أن تكون مصدرا محتملا لتصدير جماعات إرهابية إليها, وارتبط القرار الغريب بتوجهه عموما إلى الحد من الهجرة إلى بلاده بل والعمل على التخلص من الهجرة غير الشرعية الوافدة أساسا من المكسيك وبعض دول أمريكا اللاتينية. وتعرض الرئيس الأمريكي لنقد شديد من داخل بلاده قبل أن يكون من خارجها ورفضت محاكم بعض الولايات الأمريكية العمل بهذا القرار، إلى أن وافقت عليه المحكمة العليا مؤخرا على أساس أنه من صلاحيات الرئيس وفقا لقانون الهجرة الأمريكي، والملفت أن الحكم صدر بتأييد 5 أصوات ضد 4 أصوات أي بفارق صوت واحد. وانصب الانتقاد على أن هذا الموقف يعكس نزعة ضد الأجانب خاصة الجاليات الإسلامية، واعتبره المعارضون حظرا غير قانوني على المسلمين. ومع أن الدول الأوروبية اتخذت قرارات مؤخرا للحد من اللاجئين إليها، إلا أنها تتعامل مع القضية من جانبين قانوني وأمني وحافظت على كرامة اللاجئين لديها وضرورة معاملتهم معاملة إنسانية لائقة.

ولعل المثال الأبرز على أهمية التحول في السياسة الأوروبية بنحو مختلف جدا عن السياسة الأمريكية، هو ما يتعلق بالملف الإيراني. فمنذ أن أعلن ترامب تحلله من الاتفاق النووي بين بلاده وإيران والموقع في أواخر فترة باراك أوباما، وحتى تفعيل العقوبات الأمريكية ضد طهران، لم تغير أوروبا موقفها الرافض للقرار الأمريكي. والأهمية هنا ليس في التعبير عن مجرد اتجاه أوروبي نحو حدث خطير كهذا في الشرق الأوسط، وإنما لأن أوروبا طرف مشارك في هذا الاتفاق، والرفض يعنى بوضوح أن أوروبا وضعت نفسها خصما للولايات المتحدة بما يرتبه ذلك من نتائج على العلاقات بين الجانبين. ولأن أوروبا قرأت جيدا نتائج عدم الاستقرار في المنطقة الذي ترتب على ما يسمى بالربيع العربي وموقع الحركات الإسلامية السياسية فيه، فإنها علقت على تفعيل قرار العقوبات بأنه يؤدي إلى زيادة العنف والتطرف في المنطقة. وقد أثبتت التجارب في المنطقة أن التدخل الأجنبي لقلب أنظمة الحكم يؤدى فعلا ليس فقط إلى تعزيز قوة الجماعات المتطرفة القائمة، وإنما خلق جماعات متطرفة جديدة، وكأن الإدارة الأمريكية الحالية لم تقرأ مسار الأحداث في المنطقة جيدا ولم تستوعب الدروس. ولأن علاقة أوروبا قديمة جدا بالمنطقة فهي تعرف خصائصها ومسارات تطورها عن قرب ولذلك تفهمت الدرس سريعا.

وإجابة على التساؤل عما إذا كان التطور الحادث في الموقف الأوروبي يمكن أن يصحح مسار السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، فإن ذلك يتوقف على إذا ما تم رصد تحول ما ولو قليلا في هذه السياسة أم لا. ومن واقع المتابعة ووفقا لما صدر من مسؤولين أمريكيين بمن فيهم الرئيس ترامب نفسه، هناك تغير بالفعل. فالموقف الأمريكي المتشدد الذي لم ينفِ الرغبة في تغيير الحكم والذي وضح من خلال إعلان الدعم للمظاهرات في ايران والتي نشأت نتيجة الضغوط الاقتصادية التي باشرتها الولايات المتحدة، هذا الموقف لا يتسق مع موقف أمريكي آخر هو إعلان الإدارة الأمريكية أنها تريد توقيع اتفاق جديد مع طهران. كلاهما لا يتسق مع الآخر، فمن يريد توقيع اتفاق جديد لا يعمل على هدم النظام الذي يريد التوقيع معه!. وما كان ذلك سيحدث لولا التشبث الأوروبي برفض قرار إلغاء الاتفاق. لو حدث العكس لكان بالإمكان تحقيق ذلك. ومن الملاحظ أيضا أن لغة المسؤولين في البنتاجون أو وزارة الدفاع تتسم بالتحفظ مقارنة بلغة المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، مما يعني أن لغة الحرب موضع تحفظ. ومن الصعب تصور أن واشنطن يمكن أن تخوض حربا جديدة في المنطقة دون تأييد من حلفائها الأوروبيين، ولا دون الحصول على التأييد غير المباشر من روسيا والصين.

وأما بخصوص التأثير على الوضع في مسيرة السلام، فلم تجد واشنطن موافقة أوروبية على ما تسميه صفقة القرن، ولو وجدت لفعلتها على الفور أو كشفت عن تفاصيلها على الأقل. ولكن انتهى أمرها إلى لا شيء.