إشراقات

المرأة ومساهمتها في موسم الحج

16 أغسطس 2018
16 أغسطس 2018

د.بدرية بنت محمد النبهاني -

لقد برزت المرأة في كتب التراث الإسلامي بأدوار عدة، جعلت لها مكانة مميزة في التاريخ الإسلامي عامة. والحج بما يحمله من معان سامية، موسم عظيما للأمّة الإسلاميّة كافة، وهو تحقيق لأمنية عزيزة على قلب كل مسلم ومسلمة في شتى بقاع الأرض، إذ يأتي المسلمون ملبيين دعوة الحق جلّ وعلا؛ لتأدية هذه الفريضة التي اشترطت الاستطاعة فيها.

وقد كان موسم الحج على امتداد التاريخ الإسلامي موسما مهمّا لا يقتصر على أداء عبادة فقط، وإنما كان محفلا عالميّا يلتقي فيه المسلمون من كل بقاع الدنيا، مجتمعين في بيت الله الحرام، في شهر الله الحرام ذي الحجة، رجالاً ونساء، شيبة وشبابا، صبيانا وأطفالا. وقد كان للمرأة المسلمة حضور في هذا الموسم ودور تاريخي بارز في هذه المناسبة الدينية العالميّة.

ولعلّ أبرز مثال نجده عبر التاريخ الإسلامي كافة هو السيدة زبيدة بنت جعفر، سماها والداها أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وهي التي لقبها جدها أبو جعفر المنصور زبيدة لبضاضتها ونضارتها وبياض بشرتها. وزبيدة – وكنيتها أم جعفر- ابنة عم هارون وابنة خالته في الوقت نفسه، فأمها هي سلسل شقيقة الخيزران بنت عطاء، وهي أم الخليفة محمد الأمين. ولعلّ عين زبيدة التي لا زالت تحمل اسمها تخلّدها إلى أن يطوي الله طيا. ولقد توافرت لزبيدة أمّ الأمين العديد من الصفات التي جعلتها المرأة الثانية في حياة الخليفة هارون الرشيد بعد والدته، فقد كانت معروفة بالأدب والعقل الراجح والفصاحة والبلاغة، وكانت مستشارة لزوجها في أكثر من قضية أيضاً.

أمّا فيما يتعلّق بموسم الحج، فقد قامت بما لم يقم به أحد قبلها حين لاحظت معاناة الحجاج في الحصول على الماء الصالح للشرب، على دروب قوافل الحجّ آنذاك، مّما حدا بها -مباشرة- لأن تأمر مهندسي الدولة بدراسة إمكانية توفير الماء للحجاج على طريق الحج المعروفة لمكة المكرمة. فأشاروا عليها أن الأمر ممكن إلا أنه صعب، إذ يحتاج لحفر أقنية بين السفوح وتحت الصخور لمسافة ليست بالقصيرة بل تستمر لأكثر من عشرة أميال، وأن هذا الأمر سيكلّف كثيرا، لكنّها لم تتردّد في ذلك، فأمرت وكيلها بالشروع في تنفيذ هذا المشروع، وأحضروا أكفأ المهندسين للقيام بالأمر، حتى وصلوا لنبع المياه في الجبال وأوصلوه بعين حنين بمكة.

وهنا لا بد أن نشير لنقطة جد مهمة، فالكثير من القراء يعتقدون أن عين زبيدة تمتد على طريق الحج من العراق لمكة المكرمة، وهذا غير صحيح، في حين أن أصل هذه العين من وادي نعمان الواقع شرق مكة المكرمة في الطريق إلى الطائف. فزبيدة أرادتها صدقة جارية لكافة حجاج بيت الله الحرام، أثناء رحلتها للحج سنة 186هـ/‏‏802م. إن هذا العمل ليس بالسهولة التي يمكن أن تعبّر عنه الكلمات؛ ففي ذاك الزمان كان مثل هذا الأمر مكلفاً في المال والجهد، إلا أن الخير الذي رأته زبيدة في الأمر جعلها تشرع ببنائه أثناء فترة تاريخية تعدّ الأزهى في الدولة العباسية حتماً. وتعرف هذه العين -إلى يومنا هذا-باسم عين زبيدة. وقد بذلت السيدة زبيدة في هذا المشروع الكثير من المال، وقالت قولتها المشهورة لكبير المهندسين حين أبلغها أن النفقات كثيرة لهذا المشروع، فأجابته: «اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا»، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريبًا، أو ما يعادل ستة عشر كيلو مترًا. وقيل إنه بلغ مجموع ما أنفقته السيدة زبيدة على هذا المشروع: 1,700,000 مثقال من الذهب، أي ما يساوي 5,950 كيلو جرام. ولما تمّ عملها اجتمع العمال لديها، وأخرجوا دفاترهم ليؤدوا حساب ما صرفوه، وليبرّئوا ذممهم من أمانة ما تسلموه من خزائن الأموال، وكانت السيدة «زبيدة» في قصر مطلٍّ على دجلة، فأخذت الدفاتر ورمتها في النهر، قائلة: «تركنا الحساب ليوم الحساب؛ فمن بقي عنده شيء من المال فهو له، ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه»، وألبستهم الخِلَع والتشاريف» (الموسوعة العالمية ويكيبديا،2018م).

وقد قيل: «إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جدًا، لا يوصل إلى قراره إلا بهبوط كالبئر، ولظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهارًا فضلاً عن الليل» (عمر رضا كحالة، 1959).

وغير هذا فينسب إليها عدد من المواضع تقع في مدينة حائل بالسعودية، فيُنسب لها بيت في طريق مكة بين النفرة وعلى بعد ستة أميال من مكة المكرمة يعرف باسم (المحدث)، ويحوي هذا المكان قصرا وقبابا متفرقة، وفيه بركة وبئران، ماؤهما عذب، وينسب إليهما العنابة، وهي بركة لزبيدة بعد قباب على ثلاثة أميال تلقاء سُميراء، وهي بلدة قرب حائل وبعد توز، وماؤها ملح غليظ. وينسب إليها بركة أم جعفر، وهي في طريق مكة بين منثية والعذيب، وينسب إليها القنيعة، وهي بركة بين الثعلبية والخزيمية، بطريق مكة، وينسب إليها الحسني وهي بئر على ستة أميال من قروارى، قريب معدن النقرة، وينسب إليها الزبيدية وهي بركة بين المنثية والعذيب، وبها قصر ومسجد عمرتهما زبيدة، وكل هذه في منطقة حائل حالياً. (عمر رضا كحالة، 1959) وقد تحدث ابن جبير في رحلة حجته المشهورة في القرن الثامن الهجري/‏‏الخامس عشر الميلادي، قادما من الأندلس للحج، فقال: «وهذه المصانع والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، فهي من آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذه الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى، كل سنة من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها والرضا عنها». (رحلة ابن جبير، 1995م) إن هذا ديدن من ابتغى أن يبقى اسمه خالدا بعد رحيله. فكم من أمة مرت على هذا الطريق ذكرت زبيدة بالخير ودعت لها، وعلينا أن نتخذ من هذه الشخصيات التاريخية قدوة في أعمالها الصالحة، وأن نؤكد دائما أن المرأة في التاريخ الإسلامي عامة كان لها الأثر الأكبر ليس على مجريات الأحداث السياسية فقط، وإنما في الجوانب الاجتماعية والإنسانية، وكم من شخصية كزبيدة تستحث الباحثين لنفض الغبار عنها، والكتابة عن المرأة التي أثبتت عبر التاريخ أجمع أن لها مكانتها الخاصة التي استطاعت بها أن تصنع لها اسما يخلدها، فالأرواح ترحل ولكن الأسماء تخلد بما تركته للأجيال اللاحقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.