hader
hader
أعمدة

التجربة الكورية في التعليم

11 أغسطس 2018
11 أغسطس 2018

حيدر بن عبد الرضا اللواتي -

[email protected] -

تبدي معظم دول شرق آسيا اهتماما كبيرا للأنظمة التعليمية لديها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية للالتحاق بركب الحضارة الغربية التي تمكنت من تقديم الكثير من الاختراعات والمنتجات الحديثة التي كانت سببا في تغيير مجرى الحياة لشعوبها، وتمكنت بالتالي من زيادة الدخل السنوي لأبنائها لتصبح اليوم دولا منافسة للغرب في الكثير من المجالات الانتاجية المختلفة.

وتعتبر جمهورية كوريا الجنوبية إحدى الدول التي نجحت في تغيير مفهوم التعليم لديها على جميع المستويات بدءا من الحضانة إلى المراحل الجامعية وما بعدها، وبذلك تمكنت من خوض التجربة الناجحة في تعليم وتدريب وتأهيل مواطنيها ليصبح اليوم قادة الصناعات الثقيلة والعملاقة والاجهزة الالكترونية الدقيقة. ومؤخرا استمعنا إلى المحاضرة القيمة التي ألقاها سعادة محمد بن سالم الحارثي السفير العماني لدى جمهورية كوريا الجنوبية في مجلس الخنجي الاسبوعي الذي تناول في تلك الجلسة محورا خاصا عن التعليم في كوريا الجنوبية وما شهدتها في هذا الشأن من خلال العمل بتجربتها الاقتصادية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.

لقد أشار سعادته في حديثه إلى ان قرار الحكومة الكورية بعد الحرب العالمية الثانية انصب على النهوض بهذه الدولة من الركام عبر التركيز على منظومة التعليم وتحديثها بصورة تناسب وإرادة هذه الدولة، مع التركيز على الأخلاق أيضا في آن واحد، وترسيخ هذه الفكرة، حيث تم التركيز على مبدأ الأخلاق في المدارس والكليات والجامعات، بجانب تعويد الانسان الكوري على الكدح في العمل اليومي، والتركيز على التعليم المهني، وتوزيع العمالة الكورية على مختلف الدول في العالم ومنها بعض الدول الخليجية للاستفادة من جميع تجارب الآخرين، وفي الوقت الاستفادة من الأموال المحولة من العمالة الكورية العاملة في تلك الدول، واستغلالها في إقامة وتشغيل المصانع الخفيفة ثم التوجه نحو الصناعات الثقيلة، واستخدام التكنولوجيا والتقنيات الحديثة والمعرفة في جميع مراحل الانتاج، الأمر الذي ساعد في زيادة الدخل القومي لكوريا ليصل إلى 1.3 تريليون دولار بعدما كان لا يتجاوز 2 مليار دولار بعد الحرب العالمية الثانية. كما أدى ذلك إلى زيادة دخل الفرد من 8 آلاف دولار إلى 29 ألف دولار سنويا حاليا.

ومن هنا نرى أن التجربة الكورية وبعض التجارب الآسيوية الأخرى جديرة بالدراسة والعناية، وخاصة الأنظمة التعليمية التي كانت سببا مباشرا في ترقية تلك الشعوب والنهوض بأبنائها في التعليم وانطلاقتها في عمليات الانتاج والصناعة، حيث نجحت تلك التجارب في كل من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا وغيرها في توفير آلاف فرص العمل لمواطنيها بسبب نظامها التعليمي الذي كان له الفضل لتصبح اليوم في مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وتميزها في عدة صناعات كبيرة منها صناعة السيارات والإلكترونيات والحديد والصلب والنسيج بجانب قطاع المعلومات وصناعة السفن والبناء والطاقة وغيرها.

وهذا ما يؤكد عليه المسؤولون الكوريون عند الحديث معهم عن تفوقهم في مجال التقدم الصناعي لديهم، مشيرين إلى أن النظام التعليمي في مراحله المختلفة هو الذي أدى إلى تطور كوريا الجنوبية في العقود الأربعة الماضية، حيث تهتم الجامعات والمؤسسات التعليمية الكورية كثيرا بالهندسة والعلوم وما يرتبط بهما من العلوم الأخرى. كما أن هناك تعاونا كبيرا بين الجامعات والمعاهد والمجتمع الكوري في رفد السوق والمؤسسات والشركات بالكوادر الجامعية والمؤهلين بالتطورات والاختراعات والابداعات، فيما تقوم المؤسسات الرسمية بتوجيه المؤسسات والشركات الاهلية بتمويل الجامعات ومراكز الابحاث والمعاهد المتخصصة بالاموال اللازمة لتعزيز مجالات البحث العلمي وتحقيق الاغراض التي تحتاج إليها الشعوب.

فخلال العقود الأربعة الماضية حدث الكثير من التطورات والتغيرات في كوريا الجنوبية، الأمر الذي يدفعهم اليوم الى مواصلة جهودهم في تغيير مقومات الذكاء الصناعي في مدارسهم وكلياتهم وجامعاتهم وبمساعدة الجهات المعنية الأخرى في الدولة، مع العمل على تقديم الدعم للجوانب التعليمية، وتعيين المتعلمين وأصحاب المهارات في مختلف الاعمال، والتركيز على البحث العلمي وتخصيص مبالغ طائلة لدعم هذه التوجهات، بجانب تحقيق طفرة في مجال الرعاية الصحية للأفراد، وتخصيص نسبة كبيرة من الناتج المحلي لتمويل البحوث العلمية والدراسات في مختلف الحقول والقطاعات لتصبح في مصاف الدول المبتكرة في العلوم.

ومن هنا نرى اليوم ان اقتصاد كوريا الجنوبية يحتل مراتب متقدمة في العالم ويأتي في المرتبة السادسة، بينما تأتي كوريا الجنوبية في المراتب الأولى في قائمة الدول المستوردة لمصادر الطاقة من العالم نظرا لحاجتها المآسة إلى النفط والغاز، حيث تعتبر واحدة من الدول الرئيسية المستوردة للنفط الخليجي، في حين تقوم بتصدير السيارات والالكترونيات وغيرها من السلع بجانب البواخر العملاقة إلى العالم. ونجحت خلال السنوات الماضية في جذب واستقطاب الاستثمارت الأجنبية. ويعزى كل ذلك في أنها تمكنت من أن تجعل من تربيتها وتعليمها أداة فعالة في مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث ان نظام التربية والتعليم في هذه الدولة يتجدد في كل مرة، ويهتم بصورة كبيرة لإكساب مهارات الانسان وتعزيز قدراته الأساسية منذ نعومة أظفاره، بدءا من مرحلة رياض الاطفال إلى المرحلة ما فوق الجامعية. كما يهتم بالتطوير النوعي للتربية العلمية، ويضع الثقافة الحديثة المتطورة نصب عينيها، وهو يشارك بدور كبير في عمليات التنمية من خلال بناء الإنسان الواعي المبدع والملتزم بالعمل والأخلاق. وهذا ما يؤدي إلى تربية الطفل وبنائه وتنمية لغته وذكائه وغرس قيم التكيف الاجتماعي في نفوس وسلوك هؤلاء الصغار لكي يساهموا بصورة فعالة عند الكبر.

إن الكوريين مستمرون في إعطاء اهتمام كبير للنظام التعليمي لديهم باعتباره ركناً أساسيا لتحقيق التنمية، حيث من خلاله تمكنوا من تخليص كوريا من الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة. وهذا ما يتفق عليه الخبراء في العالم على أن النظام التعليمي في الدول الآسيوية كان السبب المباشر في نهضة تلك الأمم وتطورها الاقتصادي والاجتماعي في مختلف المجالات والخدمات. ولا شك أن النمو في القطاع الصناعي كان الحافز الرئيسي للتنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية بفضل المسيرة التعليمية والتدريبية التي وضعتها لتحقيق هذا الانجاز الكبير خلال العقود الماضية. فقد تمكنت كوريا الجنوبية من أن تجعل من تربيتها أداة فعالة في مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أرضها لتصبح اليوم واحدة من أكبر الدول المصنعة للسفن العملاقة التي ازدهرت لديها منذ عام 1960.

ومن هنا نؤكد بأن الاستفادة من التجربة الكورية والتجارب الآسيوية الأخرى ضروري لدولنا، حيث ساهمت تلك التجارب في تحقيق تنمية ناجحة في تلك الدول، ووفرت المزيد من فرص العمل لأبنائها من خلال عملهم في مختلف المشاريع، متخذين من لغاتهم المحلية الأصلية منطلقا أساسيا في التعليم والعمل منذ بداية المرحلة ما قبل الابتدائية وحتى الدراسات العليا. وهذا التجارب الناجحة لتلك الدول تستدعي منا الاستفادة منها في مسيرتنا التنموية، وفي خططنا وبرامجنا الاقتصادية والاجتماعية السنوية، حيث إن المساعي المبذولة في تلك الدول تهدف إلى تحقيق النجاحات في مجال تطوير وتنويع الاقتصاد غير النفطي، مع ضرورة الاعتماد على اللغة العربية في مجال التعليم والدراسات ليكون الفهم والاستيعاب والانجاز أكبر مما نتصوره عملا بما تقوم به دول صناعية كبرى في آسيا كاليابان والصين وكوريا الجنوبة وسنغافورة وتايوان وغيرها من الدول الاوروبية الأخرى لتعزيز مشاركة المواطنين في الأنشطة الاقتصادية، وعدم الاعتماد كثيرا على الأيدي العاملة الوافدة في المجالات والانشطة الاقتصادية والصناعية المهمة.