أفكار وآراء

صفقة القرن إذ تصطدم بالثوابت العربية

07 أغسطس 2018
07 أغسطس 2018

بشير عبد الفتاح -

,, تستند «صفقة القرن» على مقاربة اقتصادية تقوم على اختزال القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها السياسية والاجتماعية والاستراتيجية في البحث عن حلول لمأساة قطاع غزة الإنسانية والعمل على إنهائها من خلال مشاريع تنموية تمولها دول عربية ,,

يمكن التأريخ لولوج مصطلح «صفقة القرن»،الذي يشير إلى تسوية القضية الفلسطينية ، قاموس الصراع التاريخي الممتد بين العرب والإسرائيليين بتولي الرئيس الأمريكي ترامب منصب الرئاسة في واشنطن قبل قرابة عشرين شهرا. فوفقا لتسريبات أمريكية وإسرائيلية،استطاع الثالوث الأمريكي المكون من مستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر، والمبعوث الأمريكي لسلام الشرق الأوسط جيسون جرينبلات ، وسفير الولايات المتحدة لدى تل أبيب ديفيد فريدمان، بدعم من اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة، إقناع الرئيس ترامب بوضع خطة لتصفية القضية الفلسطينية بما يتماشى والرؤية الإسرائيلية، ومن ثم بدأ هذا الثالوث بالفعل في صياغة الخطة ، ثم إطلاع عدد من الحلفاء المقربين للولايات المتحدة على تفاصيلها ، قبل طرحها على الفلسطينيين والإسرائيليين لاحقا من أجل التوصل إلى اتفاق سلام بينهما. وهكذا، تكون صفقة القرن بمثابة مشروع أمريكي إسرائيلي المولد بامتياز، بمنأى عن الشرعية الدولية،كما لم تشارك في صياغته أية أطراف أو جهات دولية استنادا إلى المرجعيات القانونية والسياسية الدولية ذات الصلة.

وبمرور الوقت، بدأت تفاصيل الخطة تتسرب إلى وسائل الإعلام الدولية والعربية بعد زيارات كوشنر وفريقه إلى عواصم إقليمية تعتبرها واشنطن أهم أدوات الترويج للصفقة، ورويدا رويدا بات يلوح في الأفق أن الصفقة تتضمن إقامة دولة فلسطينية تشتمل أراضيها على قطاع غزة والمنطقتين «أ» و«ب» وبعض أجزاء من منطقة «ج» في الضفة الغربية. كما تتضمن تأجيل وضع مدينة القدس وعودة اللاجئين إلى مفاوضات لاحقة، مع البدء بمحادثات سلام إقليمية بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والدول العربية . وستطرح الصفقة حلا يرتكز على غزة كأساس وأجزاء من الضفة الغربية بعد أن تضم إسرائيل ما تشاء من المناطق المصنفة (ج) في الضفة الغربية المحتلة ، ذات الأهمية الاستراتيجية أمنياً واقتصادياً لإسرائيل، والتي بنيت فيها المستوطنات، على أن تكون القدس خارج أي كيان فلسطيني ويستعاض عنها ببعض القرى والبلدات في قضاء القدس ومحافظتها، بحيث يمنح الفلسطينيون عاصمة في أبوديس و4 أحياء في القدس الشرقية لا يشكل التنازل عنها أي إشكالية سياسية إسرائيلية ، مثل جبل المكبر والزعيم والعيساوية ومخيم شعفاط، إلى جانب إغراءات مالية بوضع خطة اقتصادية كبيرة يمولها العرب والمجتمع الدولي .

ولا تستبعد الخطة إقامة ما يشبه دولة فلسطينية ذات سيادة محدودة عبر نصف الضفة الغربية وكل قطاع غزة ، فيما تحتفظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية لمعظم الضفة الغربية ومعابر الحدود، كما يبقى وادي الأردن تحت السيادة والسيطرة العسكرية الإسرائيلية، وتنضم الأحياء العربية في القدس الشرقية إلى الدولة الفلسطينية، باستثناء المدينة القديمة، التي ستكون جزءًا من «القدس الإسرائيلية، بينما ستكون قرية «أبو ديس» شرق القدس هي العاصمة المقترحة لدولة فلسطين، التى سيتم دمج غزة فيها بشرط موافقة حماس على نزع السلاح. وبينما لا تتطرق الخطة إلى تفاصيل محددة بشأن مصير اللاجئين الفلسطينيين، إلا أنها ألمحت إلى عدم السماح لهم بالعودة وإنشاء آلية تعويض وإدارة من قبل المجتمع الدولي . وفيما يخص المسجد الأقصى، فإن الخطة تقترح تولي الفلسطينيين والأردن السلطة الدينية على الأماكن الإسلامية المقدسة في مدينة القدس، مع إمكانية إقامة ممر من أبوديس إلى الحرم ليصل المصلون من كل أنحاء الأراضي الفلسطينية من خلاله.

كذلك،تستند صفقة القرن إلى مقاربة اقتصادية تقوم على اختزال القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها السياسية والاجتماعية والاستراتيجية في البحث عن حلول لمأساة قطاع غزة الإنسانية والعمل على إنهائها من خلال مشاريع تنموية تمولها دول عربية، بغية تحسين الظُّروف المعيشية لمِليونين من سكانه، وإقامة ميناء بحري ومطار جوي في منطقة رفح المِصرية المحاذية له، إلى جانب محطة كهرباء عملاقة، وأُخرى لتَحلِية المِياه،على اعتبار أن ذلك هو العلاج الأمثل للمشكلة الفلسطينية وليس الحل العادل المتمثل في إعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها عبر إقامة دولة كاملة السيادة للفلسطينيين.

ووفقا لوسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية ،فإن ترامب يحاول الضغط لجمع تبرعات من دول الخليج العربية ، تصل لنحو مليار دولار لاستثمارها في غزة وتوفير جميع الأموال اللازمة لتنفيذ بنود صفقة القرن على أرض الواقع، خاصة أنها تحتاج إلى أموال هائلة لتمويل المشاريع التي تطرحها في قطاع غزة. وذكرت أن الإدارة الأمريكية تلقت تعهدا واضحا بتمويل الصفقة بأكملها، شريطة أن تكون مجدية وتطرح حلولا عملية على الأرض، مشيرةً إلى أن المبلغ المذكور لتمويل الصفقة سيتم توفيره من دول عربية وأوروبية أخرى.

ولعل أنصار هذا التوجه يراهنون على المتغير الاقتصادي كمدخل محتمل لتسوية الأزمات القائمة، عبر فرض واقع جديد في المنطقة يقوم على التعاون وتعظيم المصالح الاقتصادية لمختلف الأطراف المتصارعة؛ كما يساهم في إيجاد حلول خلاقة لجميع الأزمات، من خلال بناء مصالح ومشاريع إقليمية مشتركة على غرار مشروع «نيوم» الذي يخدم كلا من مصر والأردن والسعودية وإسرائيل، وأيضاً المشروع الإسرائيلي لبناء سكة حديد بين إسرائيل ودول عربية اخرى مروراً بالأردن، ومشاريع البنية التحتية العملاقة في غزة وسيناء.

وعلى رغم المحاولات المستميتة والمساعي الحثيثة لتمريرها، لم تجد«صفقة القرن» ملاذا من الاصطدام بما يمكن أن نطلق عليه الثوابت الفلسطينية والعربية المتمثلة في الإجماع العربي على التمسك بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ، مع إعمال القرارات الاممية الخاصة بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض عما تكبدوه من معاناة وأهوال،وهي المبادئ التي تتأسس على قواعد الشرعية الدولية والمرجعيات الأممية والقانونية ذات الصلة.

وفي هذا السياق،لا يتورع قطاع ،لا بأس به من الفلسطينيين عن الربط ما بين تلك المبادئ الراسخة وحزمة الثوابت التي تضمنتها وثيقة الإجماع الوطني الفلسطيني المتمثلة في الميثاق الوطني الفلسطيني الذي تم اعتماده، بالإجماع ودون أية معارضة من كافة الفصائل والشخصيات الفلسطينية،المجلس الوطني في صيف عام 1968 بالقاهرة، وهو ما يصبغ عليها صفة الإلزام،ويجعل منها مرجعية لا يمكن تجاهلها للعمل الوطني النضالي الفلسطيني.

ففي صدارة تلك الثوابت الفلسطينية،تأتي«عروبة فلسطين»،والتى تعني في الحقيقة عروبة الأرض العربية في فلسطين،وهو الأمر الذي يؤكد أن أي تفريط بعروبة فلسطين أو أي جزء منها، سواء تحت شعار حل الدولتين أو الدولة الواحدة، إنما يمثل خروجاً صريحا وغير مقبول عن الثوابت. أما ثاني تلك الثوابت ،فيتجلى في عدم التخلى عن خيار «العمل المسلح» حتى استعادة الحقوق المغتصبة،كما جاء في البند التاسع للميثاق، بما لا يمنع استخدام وسائل المقاومة الأخرى.ويكمن ثالث تلك الثوابت في «طرد الغزاة»

فالميثاق ينص في البند السادس منه على أن اليهود الذين يعتبرون فلسطينيين هم فقط الذين عاشوا في فلسطين قبل بدء الغزو الصهيوني لها، والذي بدأ رسمياً في القرن التاسع عشر، وقبلها كان اليهود أقل من واحد أو اثنين بالمائة من السكان . فالبند الثاني للميثاق ينص على أن الشعب الفلسطيني يقرر مصيره وفق مشيئته بعد التحرير، فيما يعتبر البند العشرون أن لا علاقة تاريخية أو روحية بين اليهود وفلسطين، بينما يضمن البند السادس عشر حرية العبادة والزيارة للجميع (وليس حرية الإقامة مثلاً). ومن هنا ،يتضح أن الميثاق مشروع تحرير، لا مشروع خنوع أو تفريط، ولذلك يرفض قرار تقسيم فلسطين (البند 19). كما شدد الميثاق في البند الخامس والعشرين على أن منظمة التحرير مسؤولة عن مشروع تحرير فلسطين وإدارته.