أفكار وآراء

الصحفيون والاحتراق الوظيفي !!

05 أغسطس 2018
05 أغسطس 2018

أ.د. حسني نصر -

بعد شهور قليلة من حصوله علي وظيفة كمحرر في قسم الشؤون المحلية في أكبر وأهم المؤسسات الصحفية في الدولة، اتصل بي تلميذي الذي تخرج في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس قبل عام واحد فقط، يطلب مشورتي في ترك العمل بالمؤسسة، والانتقال إلى هيئة حكومية قدمت له عرضا وظيفيا، رأى أنه جيد. عندما ناقشت معه العرض الجديد صارحني الصحفي الشاب، وهو بمثابة الابن، أن الوظيفة المعروضة عليه لا يزيد عائدها المالي كثيرا عن وظيفته الحالية، ولكنها توفر له قدرا أكبر من الراحة ووقت الفراغ، إذ أن لها ساعات عمل محددة، كما أنه لن يكون مطالبا بالعمل ساعات إضافية وفي الإجازات الرسمية والأعياد، وبالطبع ستكون خالية من ضغوط تسليم المادة الصحفية في وقت محدد، والضغوط العصبية المتصلة بمطاردة المصادر للحصول على المعلومات.

حاولت بكل وسيلة إقناع تلميذي السابق بأهمية البقاء في العمل الصحفي الذي أحبه منذ كان طالبا، موضحا له أهمية دوره وزملائه في تشكيل الوعي العام والتأثير في صنع القرار، وزدت على ذلك حديثا مكررا عن رسالة الصحافة وتعاظم دور الصحفيين في بناء الدول وقيادة الرأي العام. في نهاية المكالمة وعدني بإعادة التفكير في الأمر. بعدها بأيام كنت في زيارة للمؤسسة الصحفية، وعندما سألت عنه علمت أنه ترك العمل بالصحيفة بالفعل وانتقل للعمل بإدارة الإعلام بتلك الهيئة الحكومية.

حقيقة الأمر أن هذه ليست الحالة الأولى، ولن تكون الأخيرة بالطبع التي نشهد فيها تسرب الصحفيين الشباب من العمل الصحفي إلى العمل بالدوائر والمؤسسات الحكومية. ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة حول الصحفيين الذين تركوا المهنة سواء بالانتقال المباشر إلى مؤسسات حكومية، أو بالتقاعد ومن ثم التعاقد للعمل مع مؤسسات حكومية أو مؤسسات خاصة، فإن هذا التسرب أصبح يمثل ظاهرة تعاني منها الصحافة العُمانية، وتحتاج إلى التدخل والعلاج السريع إذا كنا نريد الحفاظ على الكوادر الصحفية الوطنية المؤهلة، وعلى مهنة الصحافة.

يستطيع القريب من شؤون الصحافة العمانية أن يعدد أسماء عشرات الصحفيين العمانيين من الشباب الواعد، ومن كبار الصحفيين أيضا الذين خرجوا غير نادمين وبإرادتهم الحرة من المهنة بعد أن تم تأهيليهم تأهيلا جيدا سواء في مؤسسات التعليم الإعلامي، أو في المؤسسات الصحفية نفسها. وإذا كان هذا الخروج الحر يصب في الصالح الشخصي لكل من ترك المهنة سواء ماديا أو معنويا، فإنه يمثل بكل تأكيد خسارة فادحة للمؤسسات الصحفية وللصحافة العُمانية بوجه عام.

حتى وقت قريب كانت أزمة خروج الصحفيين الشباب من مهنة الصحافة تكاد تقتصر تقريبا على المؤسسات الصحفية الخاصة، التي تفتح أبوابها للصحفيين الجدد من خريجي أقسام وكليات الإعلام والاتصال في الدولة، وتوفر لهم التدريب والرعاية المهنية في سنوات عملهم الأولى. وبعد أن يكتسبوا خبرة جيدة في العمل الصحفي يتركون هذه المؤسسات للعمل في المؤسسات الحكومية التي تقدم لهم عروضا وظيفية أفضل للانضمام إلى إدارات العلاقات العامة والإعلام بها. الجديد الذي يقدمه مثال تلميذي الذي حدثتكم عنه في مقدمة هذا المقال، أن التسرب لم يعد يقتصر على المؤسسات الصحفية الخاصة، وطال المؤسسات الصحفية الحكومية الأكثر استقرارا، وهو ما يدق ناقوس الخطر، ويشير إلى تحول مهنة الصحافة في السلطنة إلى مهنة طاردة، خاصة إذا علمنا أن نسبة من يختارون بمحض إرادتهم دراسة الصحافة بمؤسسات التعليم الإعلامي المختلفة في السلطنة، وعلى رأسها قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس، لا تتعدى في أفضل الأحوال 10 بالمائة من المقبولين بهذه المؤسسات كل عام.

من المسلم به أن مهنة الصحافة هي بالفعل، مهنة البحث عن المتاعب، ومن المهن الشاقة التي لا تروق للكثيرين، ولذلك تبذل المؤسسات الصحفية والهيئات المسؤولة عن الصحافة في دول العالم المختلفة جهودا كبيرة للحفاظ على الثروة البشرية التي اختارت العمل في هذه المهنة الشاقة، سواء من خلال تقديم الحوافز المضاعفة أو من خلال تقليل ضغوط العمل.

لعل أول ما نحتاج إليه لعلاج ظاهرة تسرب الصحفيين من العمل الصحفي، هو أن نعترف بأن الصحفيين العمانيين يعانون مثل غيرهم من الصحفيين في العالم كله مما يسمى «الاحتراق الوظيفي»، وهو ما يدفع بعضهم في النهاية إلى ترك العمل الصحفي والبحث عن وظائف أخرى أقل في الضغوط النفسية والعصبية. والاحتراق الوظيفي، كما عرفه الباحثون في علم النفس، هو أزمة تطرأ على علاقة الموظف بالعمل نفسه، كما أنه مرض نفسي يحدث نتيجة الضغوط الشخصية المزمنة في العمل. ويعد الإرهاق السبب الرئيس في الضغوط التي تؤدي إلى الاحتراق.

وقد طور الباحثون مقياسا للاحتراق الوظيفي يتضمن ثلاثة معايير هي: درجة الإرهاق، ودرجة الملل، ومدى الالتزام القيم المهنية. ويتعلق الأول باستنفاد الجهد والإرهاق وإجهاد العمل، ويقيس الثاني الشك والفتور واللامبالاة والكسل والاتجاه نحو الانعزال، أما المعيار الثالث فيركز على قياس توقعات الموظف من عمله وتقديره له. ماذا ستكون النتيجة إذا طبقنا هذا المقياس علي الصحفيين في السلطنة؟

تجدر الإشارة هنا إلى أن مركز الوقاية والتحكم في الأمراض في الولايات المتحدة الأمريكية وضع مهنة الصحافة في المرتبة السابعة بين أكثر المهن التي يعاني أصحابها من الضغوط. ويشكو الصحفيون في العالم كله باستمرار من انعكاس ضغوط العمل على صحتهم البدنية والنفسية، ويرون أن مهنتهم عالية الضغوط وأنهم في خطر دائم للتعرض للاحتراق الوظيفي كنتيجة لضغوط العمل المستمرة ، مثل الالتزام بالوقت الحرج لتقديم المادة الصحفية، والضغوط المتصلة بضرورة تقديم أعمال صحفية جيدة، وانخفاض العائد المادي، ومنافسة الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، وطول ساعات العمل، والجري المستمر وراء تعلم التكنولوجيات الجديدة، بالإضافة إلى البعد عن العائلة لفترات طويلة. وعندما تتجمع ضغوط المهنة وضغوط بيئة العمل والضغوط الاجتماعية يتزايد عدم الرضا الوظيفي، وتتزايد بالتالي احتمالات تعرض الصحفي للإرهاق الدائم والاحتراق الوظيفي. وقد كشفت الدراسات العلمية التي أجريت في هذا المجال أن الصحفيين الأصغر سنا والأقل خبرة يعانون من معدلات احتراق وظيفي أعلى من نظرائهم الأكبر سنا والأكثر خبرة.

ومن هنا فإننا ندعو وزارة الإعلام والمؤسسات الصحفية إلى المبادرة ببحث ودراسة الاحتراق الوظيفي والرضا الوظيفي لدى الصحفيين في السلطنة، وعلاقته ببيئة العمل ومتطلباته والظروف الشخصية، سعيا إلى توصيف الوضع الراهن لظاهرة تسرب الصحفيين من المهنة، ووضع الحلول الملائمة للحفاظ علي الكوادر البشرية الوطنية في هذه المهنة المهمة.