أفكار وآراء

أسس قوية للدولة العمانية الحديثة

29 يوليو 2018
29 يوليو 2018

بشير عبد الفتاح -

«منذ الثالث والعشرين من يوليو عام 1970 وعلى امتداد 48 عاماً من العمل والجهد والعطاء والإصرار على بناء التنمية والرخاء، جمعت مسيرة النهضة العمانية التي قادها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- بين حكمة القيادة ورؤيتها الاستراتيجية البعيدة النظر وبين استنفار وتوظيف جهود وطاقات الشعب العماني»

عديدة هي الطروحات الفكرية والنظريات العلمية بمجالات السياسة والاجتماع والتنمية التي سلطت الأضواء على دور الفرد القائد في التاريخ عبر صور شتى، يأتي في صدارتها، الإسهام الفاعل والبارز في بناء نهضة بلاده والارتقاء بحياة مواطنيها، فمن جهته، ذهب الفيلسوف الألماني جورج هيجل إلى أن التاريخ يقوم على أكتاف رجال عظام، وبينما يتفق فيلسوف ألماني آخر، هو ماكس فيبر مع هيجل، في هذه النظرة فإنه يركز على دور القائد التاريخي، المتمتع بقوة جاذبيته، معتبراً بسمارك، موحد ألمانيا عام 1870، أهم صنّاع التاريخ الحديث، وجاءت آراء وأفكار أنطونيو جرامشي لتشكل واحدة من أهم النظريات في هذا السياق.

وفي الموروث العربي، عبرت مقولات خالدة شهيرة عن هذا التوجه، من أبرزها على سبيل المثال وليس الحصر، مقولة: «لكل زمان رجاله»، بمعنى أن طبيعة المرحلة هي التي تفرز القادة وتحدد خصائصهم وليس العكس، والزمن هنا ليس حالة مجردة، فالحياة المعتادة، خارج الأزمة، ليست بحاجة لأشخاص من نوع استثنائي، إذ ليس هناك ما يستدعي حضور القائد التاريخي، إن لحظة التحول والغليان والصخب هي التي تنجب أبطالها وتحدد مواصفاتهم، ذلك يعني أن نتناول مرحلة انتقال تاريخي معينة، بالقراءة والتحليل، تستتبع بالضرورة كتابة سيرة أبطال بعينهم أسهموا في صياغة مآلاتها، وتركوا بصمات كثيفة منحتها هويتها، إن القائد يؤكد قوة حضوره بالأدوار التي يؤديها، مستجيباً لنداء التاريخ والضمير، وبالقدر الذي تكون فيه الأزمة ضخمة ومتشعبة بالقدر الذي يتعدد فيه وجود القادة التاريخيين وتأثيرهم، فيما يأبى التاريخ الإنساني إلا أن يفرد لمآثرهم الحميدة مساحة ناصعة ومضيئة في ذاكرته الخالدة.

ومن بين أولئك القادة البارزين المشهود لهم عربيا وعالميا، جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه -، السلطان الثامن من أسرة البوسعيد التي أسسها السيد احمد بن سعيد عام ١٧٤١، و التي تعد واحدة من أقدم الأسر العربية الحاكمة بصورة متواصلة في عالمنا العربي، حيث انقضت نحو مائتين وخمسة وسبعين عاما على توليها زمام الحكم في عمان، ولطالما عمد مفكرون ومنظرون إلى تسليط الضوء على دور الجماعة في صناعة نهضة المجتمعات، كان من أبرزهم في هذا السياق على سبيل المثال عالم الاجتماع السياسي الألماني ماكس فيبر، وقد اقتضت خصوصية التجربة العمانية أن يكون المواطن العماني عبر الأطر الاجتماعية المختلفة دعامة أساسية لتكوين المجتمع العُماني وتطوره عبر التاريخ، وحيث بدأت الدولة الحديثة بالتشكل في عام 1970 فقد استفادت من ذلك لإقامة صرح الدولة الحديثة، إذ استطاع جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - اعزه الله - منذ توليه مهام الحكم في سلطنة عُمان أن يؤكد على حقيقة أن الإنسان هو صانع النهضة ولابد من تأكيد روح المواطنة لديه، ومن ثم ارتكزت الرؤية العُمانية في هذا الصدد على إرادة المجتمع العُماني وتقاليده الموروثة التي تتجلى في الرضا الاجتماعي العام من جهة، وعلى روح العصر ومتطلبات ومنطق التاريخ المتطور على أسس علمية حديثة من جهة أخرى.

كانت سلطنة عمان حينما تولى جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- سدة الحكم ترزح تحت وطأة الفقر والتخلف كما تعانى مواجهات مسلحة، لكنه تمكن، بفضل ذكائه وشجاعته ورؤيته المتجددة وخبراته العسكرية وحنكته الإدارية الحديثة التي استقاها من دراسته ووجوده في أوروبا لفترة من الزمن، من إنهاء ذلك وتحقيق الاستقرار، كما ثبت أركان ودعائم الحكم بسياسات حكيمة، وشرع في اتخاذ الخطوات التي من شأنها خطط وبرامج تنمية وإعمار متتالية بالاستعانة بعائدات النفط العماني . وبينما أعلن جلالة السلطان قابوس تغيير اسم الدولة من «مسقط وعمان» إلى «سلطنة عمان»، فإنه سعى إلى وضع السلطنة على خارطة الأحداث العالمية، مع الانضمام الى عضوية مختلف المنظمات الإقليمية والعربية والدولية، بما في ذلك انضمامها الى عضوية حركة عدم الانحياز في عام 1973 .

وبناء عليه، كانت سلطنة عمان في العام 1970 على موعد مع منقذ وقائد من نوع فريد، من أولئك الذين صنعوا نهضة بلدانهم وأدخلوها التاريخ من أوسع أبوابه، ألا وهو جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه -، فمنذ الثالث والعشرين من يوليو عام 1970 وعلى امتداد 48 عاماً من العمل والجهد والعطاء والإصرار على بناء التنمية والرخاء، جمعت مسيرة النهضة العمانية التي قادها جلالة السلطان قابوس بين حكمة القيادة ورؤيتها الاستراتيجية البعيدة النظر وبين استنفار وتوظيف جهود وطاقات الشعب العماني، فقد انطلقت النهضة العمانية إلى آفاق التقدم والازدهار بمرتكزات سياسية واجتماعية وتنموية، تستمد ثوابتها من هويتها العمانية الهادئة، وثقافتها المنبثقة من إرثها الإسلامي، وقيمها العربية الأصيلة الضاربة جذورها في أعماق الحضارة الإنسانية مهتدية بالرؤية والدعائم التي أرساها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - أبقاه الله -، فكان وهو يرسم خطط البناء والتعمير، حريصاً على أن يسابق الزمن ليعوض الشعب العماني ما فاته، ويعيد له مكانته، فانطلقت مسيرة النهضة العُمانية غير منغلقة أو محكومة بإطار ومنهج جامد، بل كانت مزيجاً من الأصالة والمعاصرة، تأخذ من الآخر ما يصلح لها، وتترك ما يتناقض مع مبادئها وأسسها، وكان الإنسان العُماني هو المحرك الأول لهذه النهضة بما يمثله من قيم وسلوكيات.

فمنذ بدايات المسيرة، حرص جلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله ورعاه- على أن يكون المواطن العماني هو وسيلة التنمية وأداتها بقدر ما هو هدفها وغايتها، وشهدت السلطنة خلال العقود الخمسة الماضية العديد من الإنجازات، التي شملت مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومجالات التنمية الشاملة، التي عمت عمان من أقصاها إلى أقصاها، حيث تم تطوير البنى الأساسية والعمل على تنويع مصادر الدخل للحد من الاعتماد على النفط مصدراً رئيساً للدخل القومي، بهدف تحقيق الأمن والاستقرار والعيش الكريم للمواطن العماني أينما وجد وفي كل مكان من ربوع عُمان.

واستطاع جلالة السلطان قابوس بحنكته أن يجعل من عُمان دولة عصرية متكاملة ومبنية على أسس قوية ومتينة ترتبط بعلاقات دولية وإقليمية واسعة النطاق، وتساير مختلف مجالات التطور العصري والتكنولوجي والتقني والفني، ومنذ بزوغ عهد النهضة، عملت سلطنة عُمان على ترسيخ مبدأ الديمقراطية وإعطاء الحقوق الكاملة للمواطنين العمانيين، رجالاً ونساء، ومن ثم أصبح للمواطن الحق في الإدلاء برأيه والتعبير عن مطالبه ومشاركته البرلمانية الفاعلة في دفع مسيرة التنمية العمانية، المواكبة لاستراتيجيات النهضة الحديث من خلال مجلس عمان، الذي يضم مجلسي الدولة المعين، ومجلس الشورى المنتخب.

وبكلمات أخرى موجزة، لقد عمل جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- على ترسيخ أسس وقواعد الدولة العصرية الحديثة من خلال المضي قدما في مسارين متوازيين ومتزامنين : أولهما، السعي إلى تأسيس دعائم الاستقرار الداخلي المبنى على قاعدة الاندماج والانصهار الوطني في إطار من التكامل والوحدة . وقد أثبتت الممارسات السياسية القدرة على ذلك من خلال التأكيد على تعميق فكرة المواطنة ومشاركة جميع فئات المجتمع في بناء النهضة العُمانية الحديثة . أما ثانيهما، فتمثل في بناء صيغة و إطار سياسي حديث بصورة متدرجة وسلمية، بحيث يتمكن من استيعاب الشرائح الجديدة من الشباب التي أفرزتها عملية التحديث والتطور مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية للمجتمع العُماني والتمسك بتقاليد وثوابت المجتمع التي تدعم الأمن والاستقرار انطلاقًا لتحقيق الأهداف والتطلعات الوطنية الاستراتيجية.