أفكار وآراء

هل من حديث عن عملية السلام بعد الآن؟!

28 يوليو 2018
28 يوليو 2018

د. عبدالعاطى محمد -

بصدور قانون القومية في إسرائيل، ودون حدوث تغيرات دراماتيكية على المستويين الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط، أصبح من الصعب للغاية استئناف عملية السلام المجمدة منذ سنوات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وذلك لأن هذا القانون يلغى رسميا، من جانب إسرائيل، قضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية من جدول أية مفاوضات مزمعة بين الطرفين، وفي هذه الحالة لن تكون هناك جدوى من العملية برمتها.

لأول وهلة لا يشكل القانون جديدا بالنظر إلى أن إسرائيل طوال السنوات الطويلة الماضية أجهضت عمدا كل الجهود التي بذلت للتوصل إلى حل دائم وعادل في عملية السلام من خلال التفاوض حول قضايا الحل النهائي وهي القدس والحدود والأمن والمياه وعودة اللاجئين. وبما أن القانون يشتمل على مؤشرات باستبعاد هذه القضايا من جانب إسرائيل مستقبلا، فلا غرابة إذن من صدوره. ولكن أن تتحول الرؤى السياسية المعطلة لعملية السلام إلى تشريع له الطابع الدستوري، فذلك يعنى أن إسرائيل قد أعلنت مواقفها الصريحة والقاطعة لإلغاء هذه العملية من الأساس. ومعلوم أن إسرائيل ليس لها دستور وتكتفي بإصدار قوانين تسمى بالقوانين الأساسية عن طريق الكنيست، والقانون الجديد المثير للجدل هو الرابع عشر في سلسلة هذه القوانين.

فكرة القانون مطروحة منذ 2011 ولم تتمكن الحكومة الإسرائيلية من تقديم مشروع قانون يحظى بموافقة الكنيست إلا في أبريل الماضي، وكما هو متبع فقد تمت ثلاث قراءات لهذا القانون إلى أن صدر منذ أيام بأغلبية 62 صوتا ضد 55 صوتا وامتناع اثنين في جلسة عاصفة للكنيست. وجوهر القانون هو التشريع لاعتبار إسرائيل الدولة القومية لليهود كافة، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي وتحديدا مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتعرض إصداره للعقبات إلى أن تم إقراره بسبب التضارب الذي يلفه بين العمل على تجسيد الهوية اليهودية لدولة إسرائيل والقيم الديمقراطية التي طالما ادعت أنها سمة أساسية في نظامها السياسي. وقد انتصر في النهاية الفريق الذي ينحاز لتفضيل الهوية اليهودية على القيم الديمقراطية في حال وقع تناقض بينهما.

وواقع الأمر لم يكن سهلا تمرير قانون بهذا الشكل في الماضي منذ قيام دولة إسرائيل لأسباب، تتعلق بالوضع الداخلي في الدولة العبرية حيث الخلاف بين الأحزاب الإسرائيلية قائم وعصى على الاتفاق، فيما يتعلق بموضوع الهوية، هل إسرائيل دولة علمانية كما ادعت منذ قيامها أم دولة دينية، وهل اليهود يشكلون حقا قومية أم جماعات عرقية وثقافية متنوعة لا يربطها إلا الانتماء لليهودية كدين فقط، والدين في ذاته لا يصلح لبلورة قومية ما؟. ولعل الفارق البسيط بين عدد الأصوات المؤيدة للقانون وتلك الرافضة يعكس عمق الخلاف على هوية الدولة الإسرائيلية حتى الآن. وما تعليق بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي على صدور القانون إلا دليل على صعوبة المسألة حيث اعتبره يمثل لحظة فارقة في تاريخ إسرائيل بالنظر إلى أنه وضع حدا للجدل الممتد منذ عقود طويلة، مشيرا إلى أنه تحقق بعد 120 عاما من دعوة هيرتزل لإقامة وطن قومى لليهود!.

ما حسم الأمر لصالح التشريع للقومية - الدينية لدولة إسرائيل هو الصعود القوي لليمين الديني ممثلا في الليكود والأحزاب الدينية وسيطرتهم على صناعة القرار واتخاذه, وضغوط المستوطنين المتزايدة، وهو ما اتضح من التوسع الكبير في بناء المستوطنات. ولكن هذا لا ينفي أن للأوضاع الإقليمية والدولية دورا في صدور هذا القانون. فالإسرائيليون تابعوا عن كثب، سواء اليمين أو اليسار، التطورات التي وقعت في الشرق الأوسط منذ سبع سنوات، أي وقوع ما يسمى بثورات الربيع العربي، وفي القلب من هذه الثورات كان موضوع الهوية حاضرا بقوة من حيث صعود التيارات الإسلامية السياسية إلى صدر المشهد وقيادتها لهذه الثورات لتغيير أنظمة الحكم وبناء مجتمعات تخضع لتوجهاتها، وركز الإسرائيليون على الوضع في كل من العراق وسوريا باهتمام خاص، ونظروا لظهور تنظيم «داعش» في البلدين من جهة، واقتراب الجماعات المسلحة من الحدود الإسرائيلية مع سوريا سواء كانوا ينتمون إلى الشيعة أو السنة من جهة أخرى, بأنها تمثل تهديدا حاضرا ومستقبلا للهوية الإسرائيلية أو بالأحرى ليهودية الدولة الإسرائيلية، ولم يخفوا توقعاتهم بأن ينتقل «داعش» وكذلك التيارات الجهادية الأخرى إلى الداخل الإسرائيلي عن طريق التواجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لقد أشارت وسائل إعلامهم مرارا لهذه المخاوف طوال السنوات الأربع الماضية. ومن الملفت الذي يؤكد هذا الأمر أن توقيت صدور القانون تزامن مع ما جرى على الحدود الإسرائيلية السورية من إخلاء المنطقة من وجود الجماعات المسلحة الإسلامية، والضغوط التي بذلت لإبعاد القوات الإيرانية عن الجولان. ومن جهة أخرى كان لمواقف كل من الولايات المتحدة وروسيا تأثيرها في التعجيل والحسم بالنسبة لصدور قانون القومية. فقد قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدية لطالما انتظرتها حكومات إسرائيل من البيت الأبيض تمثلت في قراره بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس مما كان اعترافا من جانب واشنطن بأن المدينة هي عاصمة إسرائيل وحدها وليست خاضعة لمفاوضات الوضع النهائي أو أن الجزء الشرقي منها من المفترض أن يكون عاصمة الدولة الفلسطينية في المستقبل، وساعد هذا القرار اليمين الإسرائيلي على المضي قدما في حسم مشروع القانون لصالحهم حيث مثل غطاء مسبقا له من الدولة العظمى. وعلى الجانب الآخر أعطت روسيا الضوء الأخضر أيضا بانحيازها الصريح للدفاع عن أمن إسرائيل إلى حد القيام بمهمة التغلب عسكريا على الجماعات المسلحة في الجنوب السوري بديلا عن النظام السوري نفسه، ووجدت روسيا تأييدا من الولايات المتحدة لخطوة كهذه. والرسالة التي وصلت إسرائيل من الموقفين الأمريكي والروسي هي أنهما يؤيدان أية خطوة لتجسيد الهوية القومية الإسرائيلية حتى لو اتخذت الهوية مضمونا دينيا. هكذا نص القانون على أنه يهدف إلى حماية مكانة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، مترجما القراءة الإسرائيلية للتطورات المعاصرة في المنطقة من حيث الإسراع بحسم هوية الدولة وسط ظروف إقليمية تشير إلى أن موضوع الهوية بات مقلقا لأطراف عدة في المنطقة، وأن هناك غطاء من القوى الدولية الكبرى للتوجه الإسرائيلي في هذه القضية.

ولكن القانون جاء عنصريا إلى حد كبير على مستوى الوضع الداخلي في إسرائيل لأنه لم ينص فقط على أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وإنما على أن حق تقرير المصير فيها يخص الشعب اليهودي فقط، كما نص على التزام المحكمة العليا بتفضيل الهوية اليهودية للدولة على القيم الديمقراطية. هنا يعصف القانون بحقوق عرب 1948 الذي هم من مواطني دولة إسرائيل منذ 1948، لأنه ربط المواطنة باليهود فقط وعليه فإن عرب 48 لم يعودوا يتمتعون بحقوق المواطنة. كما نص القانون على استبعاد اللغة العربية بعد أن كان معترفا بها كلغة غير رسمية، وقرر التعامل رسميا باللغة العبرية فقط. وفي الماضي كانت القوانين الأساسية تنص على أن الحقوق هي لليهود ولمواطني الدولة أي تشمل عرب 48، وفي القانون الجديد تم استبعاد تعبير مواطني الدولة. صحيح أنه أشار إلى إمكانية أن يمارس العرب اللغة العربية في محيطهم ولكن لا يتم استخدامها لا رسميا ولا شبه رسمي. كما أن تفضيل القيم اليهودية على الديمقراطية يعنىي أنه في حالة أي نزاع على الحقوق وفي الممارسات من جانب عرب 48 ستنحاز المحكمة العليا لليهود. ولذلك لم يكن مستغربا أن يلقى القانون احتجاجا داخل الكنيست من جانب نواب عرب 48 الذين ألقوا بأوراقه في وجه نتانياهو. ولا شك أن دولة بهذا الشكل (الطابع العنصري والديني) لا تؤمن بالحوار والتفاوض مع الآخر، وإنما هي دولة ذات توجه واحد مغلق على ذاته. والتفاوض يعنى تنازلات متبادلة، ويعد آلية أساسية في عملية السلام, ووفقا لما يفهم من هذا القانون فإن آلية التفاوض مستبعدة من الجانب الإسرائيلي.

الأخطر من كل ذلك هو تأثير القانون على مسار عملية السلام أو القضية الفلسطينية فبمقتضاه تتم الإطاحة بكل قضايا الحل النهائي بالقانون ويستطيع أي مفاوض إسرائيلي مستقبلا أن يتملص من أية إشارة لهذه القضايا. فبالنسبة للقدس يترتب على صدور القانون أن القدس «الكاملة» باتت العاصمة الموحدة ليس لإسرائيل فقط وإنما لبقية يهود العالم، هذا هو ما يفهم بوضوح من الإشارة في القانون إلى أن إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي وحده وله الحق في تقرير مصيره، والمعنى استبعاد أي حديث عن قدس غربية وأخرى شرقية بل عن قدس واحدة للإسرائيليين فقط. ونص القانون أيضا على تنمية الاستيطان انطلاقا من النظر إليه على أنه من القيم الوطنية، وعليه للحكومات الإسرائيلية أن تشجعه وتدعمه سياسيا. ولم يشر القانون إلى حدود إسرائيل بل ترك الأمر مفتوحا. فطالما أن الهوية الدينية هي الأساس للوجود القومي الإسرائيلي يصبح الباب مفتوحا لكل ما تدعيه هذه الهوية التي تعطي الحق التاريخي المطلق لليهود في أرض فلسطين. وإذا التمييز، بل والإقصاء، من أبرز معالم هذا القانون فيما يتعلق بعرب 48، فإنه يصبح أشد فيما يتعلق بعودة اللاجئين إلى أرض فلسطين المحتلة التي قامت عليها الدولة العبرية، وهى إسرائيل. وفقا لهذا القانون لا مجال مستقبلا للحديث عن عودة اللاجئين. لقد ألقى الإسرائيليون بالكرة في ملعب الطرفين العربي والفلسطيني من جهة والمجتمع الدولي من جهة أخرى، وأصبح لزاما عليهما الرد بإسقاط هذا القانون وهو أمر ليس بالصعب إن اتحدت الإرادات. صحيح أن عدم الاعتراف العربي والفلسطيني مهم كما عبرت عنه ردود الأفعال، ولكنه بالطبع ليس كافيا بالمرة، وإنما من الضروري أن يوجه العرب والفلسطينيون رسائل عملية قوية للحكومة الإسرائيلية تفيد بأن أمن إسرائيل لن يتحقق بهذه الخطوات الأحادية الجانب وأن تطلعاتها للعيش المشترك معهم لن تتحقق مع قوانين إسرائيلية من هذا النوع. وللمجتمع الدولي أن ينهض بمسؤولياته دفاعا من جانبه عن كل ما اتخذه من قرارات دولية على مدى عقود طويلة لتحقيق سلام دائم وعادل في الشرق الأوسط, بينما الصمت على المواقف الإسرائيلية ليس فقط لن يحقق هذا الهدف وإنما يهدد أمن وسلام العالم أجمع.