إشراقات

المن والأذى سبب لمحق البركات وزوال الخيرات

26 يوليو 2018
26 يوليو 2018

القاهرة: محمد إسماعيل -

منذ أن خلق المولى - عز وجل - الأرض ومن عليها ظهرت معها مجموعة من النقائص الإنسانية التي مثلت بمرور الوقت مجموعة من الآفات القلبية والسلوكية التي تهدد المجتمعات المختلفة، ورغم أن كل الأديان السماوية وحتى الحضارات الإنسانية حاولت التعامل مع هذه النقائص وتهذيبها إلا أن معظمها ظل به تصور واضح هو في عدم طرحها للبدائل أو سبل العلاج إلا الإسلام، فقد جاء فياضا بالخير صداعا بالحق طافحا بالخلق الكريم، وقد أتى مناسبا لكل الأمم، مجتازا حدود الزمان والمكان، ليكون حلا لكل الأمراض القلبية والسلوكية. فهو قبل أن يحرم أو ينهي عن شيء وضع البديل له وبين للمسلمين كيفية علاجه؟! وإن الناظر في هذا الدين العظيم ليعرف حق المعرفة أنه وجد للبشرية جمعاء، ولا حياة كريمة لها بدونه.

يذكر الدكتور سعيد عبد العظيم في كتاب «خلق المسلم»، أن المن من النقائص الإنسانية المذمومة التي نهى عنها الإسلام التي لا يجب أن يتصف بها المؤمن، فيقال: منّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة. وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى، وقد تكون المنة بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: المنة تهدم الصنيعة، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: إذا كفرت النعمة حسنت المنة. والمنان من أسماء الله تعالى، ومنّ عليه منا أي أنعم عليه، وقيل: المن أخو المن، أي الامتنان بتعديد الصنائع أخو القطع والهدم، والمنون من النساء التي تزوج لمالها، فهي أبدا تمن على زوجها، وقال بعض العرب: لا تتزوجن حنانة ولا منانة، وفي الحديث: (ثلاثة يشنأهم -يبغضهم- اللّه، -منهم- البخيل المنان). وقد يقع المنان على الذي لا يُعطي شيئا إلا منّة، واعتد به على من أعطاه وهو مذموم.

وهناك آيات كثيرة بالقرآن الكريم جاءت تذم المن وتحذر منه وتستقبح هذا الصنيع ومن ذلك، ما جاء في قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر)، (سورة المدثر الآية: 6)، وقوله تعالى: (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)، (سورة الشعراء الآية: 22) ، وقوله تعالی: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتُم صادقين)، (سورة الحجرات الآية: 17)، وقوله تعالی: (یا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذی)، (سورة البقرة الآية: 264)، وقبلها قال سبحانه: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (سورة البقرة الآية: ٢٦٢)، فهذا الجزاء إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لأنهما مبطلان للصدقة.

والمن من الكبائر، لما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن المان أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، وظاهر الآية يدل على أن المن والأذى يكونان من المنفق على المنفق عليه، سواء أكان الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز أو الإعانة فيه، أم كان في غير الجهاد.

والأذى يشمل المن وغيره، ونص على المن وقدّمه لكثرة وقوعه من المتصدق، ومنه مثلا أن يقول: قد أحسنت إليك، أو يتحدث إليه بما أعطى، فيبلغ ذلك المعطى فيؤذيه، ومن الأذى أن يسب المعطى أو يشتكي منه، أو ما أشبه ذلك، وقال القرطبي: المن غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية، وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منعم بماله على المعطى، وإن كان أفضل منه في الأمر نفسه، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد .

ويؤكد ابن القيم الجوزية -رحمه الله- في كتاب « مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين»: أنه قد ورد عن الرسول صلي الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث في ذم المن، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)، (رواه مسلم). وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى)، (رواه النسائي، وقال الألباني: حديث حسن صحيح).

والمن يستجلب غضب الله سبحانه وتعالى، ويستحق المان الطرد من رحمته جل وعلا، وهو يوعز الصدور، ويحبط الأعمال، وينقص الأجر، وقد يذهب به بالكلية، ويحرم صاحب هذه الآفة من نعمة نظر الله إليه، وكلامه معه يوم القيامة، والمن صفة يتشبه بها صاحبها بالمنافقين، وهي آفة من آفات اللسان، ومظهر من مظاهر سوء الخلق، ولذلك ورد الوعيد الشديد لمن حصل منه ذلك.

وإذا عرف الداء وأسبابه وخطورته ومضاره، سهل العلاج -بإذن الله-، وكما قالوا: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى من عصيت، وشأن من طلب السلامة والنجاة أن يعظم حرمات الله، (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، (سورة الحج الآية: 32)، والمسلم يرى ذنوبه في أصل جبل يخاف أن يقع علیه، أما الكافر والمنافق، فیری ذنوبه وكأنه ذباب جاء علی وجهه فقال به هكذا وهكذا، علی جهة الاستخفاف، وإنما خف الحساب علی قوم ، لأنهم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، والعيوب والآفات تقبل الإزالة والمحو بإذن الله، ولذلك قال سبحانه : (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، (سورة الشمس الآيتان: 9، 10)، و بشيء من المجاهدة مع معرفة الأسماء والصفات، وأن المنان والمنعم علی الحقيقة هو الله، (وما بكم من نعمة فمن الله)، (سورة النحل الآية: 53)، وأن المن والأذى من المخلوق سبب لمحق البركات وزوال الخيرات في العاجل والآجل.