المنوعات

المشهد الشعري الراهن في السعودية

25 يوليو 2018
25 يوليو 2018

علي البزّاز -

يتعذر على الباحث في تاريخ الشعر القيام بجردة عادلة ومنصفة لتاريخ بلد ما، بل وحتى لجيل شعري معين مهما حاول الدقة، وذلك لأسباب بنيوية خالصة، تتعلق بالماهية الباطنية والملتبسة للشعر التي تتباين من شاعر إلى آخر، ومن جيل إلى سواه. وهنا تلعب الطبيعة السياسية والاجتماعية للبلد دَورا كبيرا، فضلا عن تربية الشاعر المعرفية والثقافية...

قليلة هي الأنطولوجيات الشعرية ذات المشهد الشامل مثل «ديوان الشعر الفرنسي» لغاتيان بيكون. يتصل الشعر بالاستحالة، فتعجز الفلسفة حتى عن الإمساك بالشعر؛ يقول هايدغر: «مصير العالم، يعلن عن نفسه في أعمال الشعراء من دون أن يكون قد ظهر وتجلى كتاريخ للكينونة».

فقد تجلى المصير في الشعر أولا، قبل أن يكون ككينونة تاليا، «إقامتنا على الأرض، هي إقامة شعرية» فالشعر يفكر بالعالم كمصير، بالوردة كمصير، وبالماء كمصير، قبل أن يبلور الفكر موقفه من المصير ذاته. الشعر سابق على الفكر، والفكر والدول والأنظمة تستعين بالموقف الشعري، حينما تريد أن تفكر بحياة المجتمع ومصيره.

وكم حاول الفلاسفة اقتفاء الشعراء في كتابتهم، ولطالما تعذبوا، ولم يحافظوا على أمانهم الشخصي عندما عاينوا آثار الشعراء، يكتب موريس بلانشو في كتابة الكارثة: «الفيلسوف الذي يكتب كما لو أنه شاعر، إنما يسعى إلى دماره الشخصي، وحتى في سعيه هذا، لا يقدر أن يحققه. الشعر سؤال بالنسبة إلى الفلسفة التي تزعم أنها تقدم جوابه، وتفهمه (تعرفه). إن الفلسفة التي تعيد النظر في كل شيء تخفق في الشعر الذي هو سؤال يفلت منها».

التجربة الشعرية في لبنان مثلا، تتسم بحرية كبيرة سياسية وثقافية، تبلورت بمنأى عن السلطة إلى حد كبير، مقارنة بالوضع الشعري في العراق وسوريا، المحكوم بقبضة نظام سياسي جائر، جعل الشعر خادما له، بينما نرى الوضع في مصر، محكوما بالزعامات الشعرية المعاصرة، كشوقي والبارودي، بمعنى، ثمة وضع ثقافي فرضته النخبة التقليدية، يصعب أو يستحيل تجاوزه، لكن المتابع لحركة التجديد في الشعر، يتمكن من تحديد دور اليسار فيها، مقارنة بالإسهام الضعيف الذي بذلته النظم السياسية المحافظة التي كانت بعيدة أصلا عن التحديث في مؤسساتها السياسية والثقافية؛ وعليه، فثمة قصدية لمنع التفكير الحر والتجاوب مع الآخر بلغات غيرية منعا «للغزو الثقافي» والمحافظة على الهوية والتراث، وهنا سنحاول مقاربة الحركة الشعرية في المملكة العربية السعودية على ضوء المعطيات الآنفة، ومن خلال (ملف «راهن المشهد الشعري في السعودية؛ تأملات نقدية .. ومختارات شعرية، 33 شاعرا وشاعرة»، المنشور في مجلة «بيت الشعر المغربي»، ربيع 2018)

الشعر من داخل المأزق

يبدو الحديث عن واقع الشعر العربي في البلدان المجاورة للمملكة العربية السعودية مقترنا بالنهضة الثقافية، مقارنة بالسعودية التي كانت منغلقة بوجه الانفتاح والتحديث رسميا ومؤسساتيا. وهكذا، يكون الانغلاق مركبا، مرة بطبيعة النظام السياسي، ومرة نتيجة المؤسسات المحافظة التي أنشأها، بحيث أصبحت متعاونة معه في تنفيذ توجهاته، فعانى الشعراء هناك إعاقة مركبة مزدوجة. يقول الشاعر علي الدميني: « قد تحملوا جميعا (الشعراء) بصدورهم العارية إلا من الشعر، رماح تلك الهجمة الشرسة التي وسمتهم بالتخريب والتغريب والتكفير والخروج على الثوابت، منذ فترة الستينات وحتى التسعينات من القرن المنصرم»، بمعنى الإعاقة المركبة، فكيف يستطيع الشاعر أن يكتب، وهو متهم أصلا بالكفر والإلحاد؟، نعم، كانت هناك ممنوعات وخطوط حزبية (العراق وسوريا مثلا) ولكن لم تصل إلى الكفر والإلحاد، أي الاتهام المسبق، المنطوي على المنع والمحاكمة والتهديد العلني لحياة الشاعر، مما يؤكده في موضع آخر عبد الله السفر بقوله «وقد تحمل جيل التجديد والتحديث- شعراء ونقادا - العبء مرتين؛ عبء تجديد النص والسير به إلى مدى جمالي، أبعد مما كان عليه مع الجيل السابق، وعبء الدفاع عن هذا النص أدبيا واجتماعيا ودينيا، وقد مثل العبء الثاني نزيفا للحركة الشعرية والثقافية». هنا يمكن القول: إن أهم ما ميز حركة الشعر في السعودية، هو البعد التاريخي الديني المقدس، حيث شكل مسيرة البلد الثقافية برمتها، ملقيا عليها ملامح التزمت والمحافظة والانغلاق، فكيف نطالب الشعراء بالشعر مع وضع معقد ومظلوم كهذا؟ هنا تكمن البطولة بشكل مغاير لمفهومها المعروف؛ يقول سيوران، لم تعد البطولة مواجهة عدو خارجي، بل مواجهة الذات كعدو داخلي.

ولأن بنية السلطة والمجتمع هي غير شعرية وغير حداثوية، فثمة بطولة في الإنجاز الشعري، بطولة داخلية أولا، وبطولة مقاومة لبطولة السلطة المانعة. هناك تلبية لمقولة رامبو «يجب أن نكون مطلقي الحداثة». صحيح أن الشعر ممارسة فردية، تعتمد كثيرا على وعي الشاعر وثقافته،- وهنا يكمن تعقيدها أيضا - لكن الشعر الحديث هو في المجتمع الحديث نوعا ما، ولا أدعي أن أغلبية البلدان العربية حديثة، لكنها أفضل حالا من السعودية وقتذاك. لهذا، فإن طبيعية تشكيل البناء الفوقي المنفتح بالضرورة على المكونات الفكرية والإبداعية كافة في العالم، قد أسهم في تعضيد موقف شعراء التفعيلة واشتغالاتهم لحسم معركتهم مع جميع المؤسسات في المملكة، منذ تسعينات القرن الماضي؛ بمعنى ثمة مكابدة شخصية وعميقة بذلها الشعراء من أجل الحداثة الشعرية بالاطلاع على التجارب العربية والعالمية - التي قلدوا بعضها وانبهروا بها - من دون إسهام الدولة والمجتمع، إنجاز المأزق والتفكير بالاستفادة منه كحل.

لكن المنع يجهل طبيعته، كما تجهل السلطة طبيعتها. فطبيعة المنع لا بد أن تفضي إلى المسموح، بسبب أن المنع لا بد أن يتصدع داخليا، ولا بد له من الوصول إلى حد ما، ثم يتراجع، وصولا إلى المتاح والحرية. والسلطة لا بد لها من الانهيار معلنة سلطة جديدة.

يقول الشاعر محمد العلي في قصيدة «وقوفا بها»:

«الوجع: تلك مفردة سرقت كل ما في الحقول من النضج والزهو والأسر

ثم تشظت إلى كل قلب.

ثلة من مسامير أو هرم من دموع، وقافلة من رعود بلا مطر سيجيء، ومجزرة دائمة».

هذه اللغة التي لا يتوقعها المنع، بسببه ظهرت في القصيدة، أي بسبب السلطة والمحرمات، ويمكن إحلال كلمة المنع عوض «الوجع» في القصيدة، وهكذا، يأخذ الشعر من الفكر اشتغاله ولكن بأسلوب أدبي، كاشفا له ما ينقصه وهو، التعبير الأدبي.

وكما يقول جان بوفريه «البون الشاسع بين الشعر والفكر، قد يعود إلى أن الشعر كان موجودا، في حين أن الفكر لم يشرع بعد في التفكير ... الحوار مع الشعر لا يمكن أن ينطلق إلا من فكر بالكاد يكون مبلورا».

يكتب الشاعر الراحل محمد الثبيتي في «بوابة الريح»

«وما تيممت شمسا غير صادقة

ولا طرقت سماء غير مفتوح

قصائدي أينما ينتابني قلقي

ومنزلي حيثما ألقي مفاتيحي».

أشد ما يخافه المنع هو أن تتحول الكلمات إلى مفاهيم، فتعبر حينئذ عن دلالات غير مألوفة، وهكذا، يخاف الرقيب من كلمات مثل؛ بوابة، مفاتيح، سماء.

تتكرر في قصائد «الملف» كلمات القافلة، البرية، المطر، بل وحتى البحر شقيق الجفاف تماشيا مع البيئة الصحراوية، ولكن بكسر دلالاتها المألوفة، فلم تعد القافلة هي الرحلة البدوية فحسب، بل الترحل بين التضاريس المعرفية والأدبية، بمعنى، يستعمل الشاعر التاريخ ليعبر عن صفة أخرى مغايرة للشائع ولا توجد فيه، مثلما اشتغل دولوز على النص المترحل ما بين الأجناس الأدبية، استعاره من الصحراء، من القافلة موجها دلالاتها إلى الفكر والإبداع. لا يترحل النص بمفرده، إنما مع نصوص أخرى، وما بين كتاب آخرين كالقافلة (جمال وبشر ومعدات).

كما تحفل قصيدة أحمد الملا « تمارين الوحش»، بما تجود به الصحراء من حيوانات وأصوات واستعارات (الوعل، النمر، حجر، فراء، براثن، زئير، والتوثب، الذي هو فعل صحراوي بامتياز، خاص بالحيوانات، تمت توجيهه، لوصف الأمل، فترحل كالبدوي من الحالة الحيوانية إلى الآدمية). والقصيدة برمتها هي مترحلة رمزيا من الصحراء إلى البشر:

«بعد أن يطمئن البيت، وتنطفئ رائحة الليل الحريفة من هوائه، أتسلل بطمأنينة الغدر .. وأحصي الطرائد وأشم مكان صيدها المعتاد قبل جهامة الليل».

بينما يشتغل الشاعر إبراهيم الحسين في قصيدته «دوار الصور» على الأصدقاء بوصفهم تاريخا، وصورا في ألبوم الزمن:

«نعثر على أحبائنا في الصور ... ننكر عليهم مبالغتهم في بقائهم مؤدبين هكذا، ننكر تنازلهم عن أعوامهم بتلك السهولة، فهل كانوا يعلمون أنهم حين رضوا بالقعود في صورهم هكذا، أننا لا نملك أن نلتقطهم مرة أخرى، ولن نستطيع أبدا أن نشتريهم».

وها هو علي الدميني، بين العقل ومأزقه:

«يا إله الصدف،

كيف لم نختلف؟

لكنني

دائما

لا أصيب الهدف!»

1

«أحب اليد التي تلتقط، وتقبل، وتتمرغ فوق خشب الطاولة، بلا سبب سوى صمت المكان» (محمد الدميني)

2

«عاجز إلى درجة أنني لم أعرف/‏‏ كيف أقطف القبلة من فمها» ( مسفر الغامدي)

3

«أكتب كما لم تستطع من قبل/‏‏ دع بين الحروف فوارق المعنى، وعزز من حضورك في الكتابة»( أحمد قران الزهراني)

4

«إني أراني أعصر المعنى فيشربه المجاز»(شقراء مدخلي)

5

«ننظر إلى بعضنا ولشدة سرعة المرارة/‏‏ لا نميز التفاصيل/‏‏ ولا حتى الشكل العام» (هدى ياسر)

6

«لست نافرا كالنوافير/‏‏ ولا منظورا كالعيون/‏‏ لست مشاعا كالشلالات/‏‏ لست عاموديا كالآبار/‏‏ ولا أفقيا كالترع» (فوزية أبو خالد)

7

«لا فرق/‏‏ أغلق ناظري لأرى صورتي/‏‏ وأغمض دوني الأذنا» ( حسن أحمد القرني)

8

«كنت تفكر أن صفعة واحدة في وجه الهواء/‏‏ كفيلة باسترداد فكرة الطيران» (محمد الحرز)

9

«في النوم، يصلح أن تواعد من أردت من النساء» (علي الحازمي)

10

«القصيدة التي تعد أنفاسها/‏‏ وتتلفت: خوفا؛ لا يضمها ديوان، ولا تتوارث جيناتها ذاكرة» (أشجان هندي)

لا يقطن الشعر في واحد؛ في شاعر، أو في بلد واحد، أو في قصيدة، وهكذا، تعاني أغلب الأنطولوجيات الشعرية من أنها ليست الرجاء الأخير، أو العلاج النهائي، بخلاف الفنون الأخرى؛ رواية، مسرح، تشكيل، سينما، التي تتيح إمكانية ضبطها وتوثيقها.

*كاتب وشاعر من العراق