أفكار وآراء

يوليو والحوار الاقتصادي الوطني

25 يوليو 2018
25 يوليو 2018

مصباح قطب -

من حق الجيل الجديد -ومن واجبه أيضا- أن يعرف بدقة وأمانة وموضوعية التاريخ الحديث لبلاده بكل فروعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحضارية، والشروط والظروف التي قامت فيها نهضة البلاد والعوائق التي واجهت عملية بناء النهضة وصلابة الإرادة التي تمكنت من تخطيها، النجاحات والإخفاقات، والضغوط -أو الأجواء- العالمية والإقليمية والمحلية التي تمت أو تتم فيها عمليات الإصلاح وترسيخ التقدم، ونوع السياسات التي تم اتباعها، وأسباب اختيار بديل من البدائل والخلفيات التي وقفت ضد اختيار سياسات أخرى ربما نرى الآن أنها كانت أفضل أو أوقع. طبيعة المؤسسات التي كانت قائمة قبل بدء النهضة والمؤسسات التي تم استحداثها، والهياكل التي قامت عليها وفلسفة عملها أو إيجادها من الأساس. إن خسائر عزل الشباب عن تاريخ بلاده أو تشويه رؤيته له أو التعمية على التاريخ أو تحويره، مهولة،  فمن ليس له ماضٍ ليس له حاضر أو مستقبل كما يقولون ، ومن ليس له ماض لن يكون قادرا أبدا على فهم ما قبل الماضي وما بعده بل وما نوع المستقبل الذي يحب أن يسعى إليه أو يمهد له أو يعمل عليه. أقول ذلك وكلنا يعلم أن شهر يوليو هو -وبالمصادفة الطيبة حقا- شهر العيد الوطني في كل من سلطنة عمان ومصر. وقد أصبح الشهر مناسبة مهمة لإعادة التذكير بدروس الماضي ومعاناه البناة الأوائل من صعاب وأسرار وخبايا عمليات وضع اللبنات الأولى للتقدم، ومناسبة للنقاش الوطني الصادق والخالص حول طبيعة المراحل المختلفة التي مرت بها البلاد وطبيعة المستقبل الذي نتطلع إليه وسبل الوصول إلى ذلك المستقبل. في وقت من الأوقات كان يكفي أن تعرض بعض صور المواقع التي كانت بشحوبها وبدائيتها العمرانية وترديها وقسوتها، وما آل إليه حالها بعد النهضة وحركة العمران المخططة، ليدرك المشاهد ويستحضر كم الجهد المبذول والعمل المضني الذي تم لتغيير حياة المنطقة أو الوطن كله.

فالجيل الذي عاش تحت وطأة القديم، وعاصر وشارك وشهد بزوغ الجديد، ترسخ في بصره وبصيرته، كل ما هو موصول بما كان وما أصبح وكيف حدثت عملية التحول من حال الفقر وضيق الحال  وقلة الموارد وتواضع  المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وكذا المكانة بين الدول عموما، إلى الوضع الراهن بكل تجلياته، ولذا يكفي أن يرى عدة صور أو يزور متحفا أو يسمع أغنية أو يقرا قصيدة أو يستعيد من نفسه إذا مر على هذا المكان أو ذاك المشهد القديم ثم يقارن ويحلل ويستخلص. أما الجيل الذي نشأ في واقع مختلف حيث المدرسة -العصرية- قريبة من البيت، ومثلها الجامعة والحديقة والمكتبة ودار العبادة، والنادي والمسرح و دار السينما، ومرافق الترفيه والخدمات. والمصنع أو الشركة أو الهيئة الخدمية أو الزراعية أو موقع العمل الذي سيلتحق به، لن يتصور كيف كان الحال حين كان عدد المدارس في سلطنة عمان كلها يعد على أصابع اليد  الواحدة، وكيف كانت مكافحة الحفاء مهمة قومية في مصر قبل 1952. مثل هذا الجيل وهو قد ولد في عصر مختلف وفي ظل تطلعات وأحلام وإمكانات مختلفة، ومنافسات فردية وجماعية ودولية شرسة، قد لا يستطيع أن يتخيل ما كان أو يتوقف عند القديم كثيرا، وقد لا يرى العمل الجبار لإحداث التحول، بالحجم الذي يجب أن يراه به، بسهولة كما كان الأمر مع الجيل الأكبر. ولذك لابد من وسائط مناسبة، وصبر وتأن ودأب، في إحياء الذكرى وتجديد العهد بالمضي قدما لتكون بلادنا في الموضع الذي يجب أن تكون فيه بين الأمم.

وفى يوليو دائما ما يدور الجدل بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، وأين يبدأ هذا أو ينتهى ذاك، وكيف يمكن أن يكمل بعضهما البعض، أو يمكن منع تصادم بعضهما بالبعض. ويدور الحوار ساخنا عن الدعم وأهميته ونطاقه قديما والآن، ووجوب تعديله أو إلغائه واستحداث آليات أخرى محله (كالدعم النقدي المشروط مثلا للمستحقين). ويتحاور المتحاورون حول التصنيع وأهميته في كل مرحلة من مراحل تطور الدولة وهل يركز على إشباع الحاجات الأساسية للسكان أم يركز على التصدير؟. موقع القطاع الخاص في خدمات التعليم والصحة ودور الدولة فيهما باعتبارهما من ركائز العدالة الاجتماعية والتحديث والمواطنة ؟. ويقيني أن العمانيين يناقشون ذلك كما نناقشه في مصر مع اختلاف المعطيات والظروف كما قلت. وإذا كان الكل مهموما الآن بتعزيز تنوع الهيكل الاقتصادي وسرعة الالتحاق بالاقتصادات الرقمية المتطورة وتحقيق قصب السبق في مجالات الابتكار وريادة الأعمال والاختراع والبحث العلمي، فيهمني أن أقدم خبرة من الماضي في مصر حول التزاوج بين تحقيق الأهداف وطبيعة المؤسسات وأصول التقييم العملي للخطوات المقبلة على الصعيدين الفني والسياسي، وذلك من واقع رؤية للباحث في الاقتصاد السياسي والصديق الدكتور حسني كحلة يشير فيها إلى أن الخطة القومية الأولى في مصر (1960 - 1965) تعاملت مع اقتصاد مختلط. أي عام وخاص ولا أحد من شباب اليوم تقريبا بما في ذلك رجال الأعمال ورثة الشركات الكبيرة يدركون هذه الحقيقة . وناقش مؤتمر للاتحاد القومي (التنظيم السياسي بمصر وقتها) تفاصيلها قبيل بدء تنفيذها في منتصف 1960. ولا أحد أيضا يريد أن يقتنع بأن عبدالناصر لم يكن يحتكر القرار على النحو الذي يقال بلا تمحيص بغض النظر عن أن ثورة يوليو لها أخطاء كبيرة مثلما لها إنجازات كبيرة. وإذا كانت الخطة قد صادفت أمورا طارئة، كتعرض محصول القطن للدودة، فإنها ما إن بدأت حتى بادر الانتهازيون في قطاعات التشييد والوساطة باستغلال التسارع الذي أوجدته  الخطة في النشاط الاقتصادي والتزايد الكبير في الطلب على مواد البناء فرفعوا أسعارها على نحو أدى إلى عدم قدرة الأموال المخصصة للاستثمار بإقامة كل ما كان مقررا لها أن تقيمه  في ظل أسعار مستقرة. هنا درسان الأول الظروف العارضة وكيفية التعامل معها في أي خطة، والثاني وهو الأخطر، أن أي خطة قد توجد واقعا يعقد عملية تنفيذها هي ذاتها كما رأينا. وقد بدأت الثورة في يوليو 1961 بسلسلة من قرارات التوسع في القطاع العام بتأميم البنوك و شركات التأمين، و أخرى معظمها يعمل في مواد البناء والتشييد وشركات النقل العام وملاحة بحرية، أُنشئت مؤسسة عامة للكهرباء والغاز. أي شاب حاليا سيقول بلا نقاش إن التأميم خطأ قاتل وإنه أضاع فرصة قيام قطاع خاص وطني قوي وان الحكومة ليست هي افضل مشغل ودورها يجب أن يكون الرقابة والتنظيم فقط لا الإنتاج والمزاحمة. لكن لا يمكن التفكير في الماضي بمدخلات الحاضر. ويكفي أن أنقل إليكم ما سرده الباحث حيث إن  “جون بادو” - السفير الأمريكي في القاهرة خلال الفترة 1961-1964 - قال في كتاب له عن ثورة يوليو وعبد الناصر: وحينما صدرت قوانين التأميم ثارت ضجة حولها فقررت تكوين فرق عمل من رجال السفارة لدراستها بدقة، وانتهينا إلى أن حجم القطاع العام الجديد في أقل منه في إسرائيل وفي الهند وفي فرنسا وفي بريطانيا بل وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. وأنه لا يصادر القطاع الخاص أو يغلق الطريق أمامه، بل على العكس سوف يحفزه ويدفعه للمنافسة في ظل اقتصاد مختلط كما حدث في هذه الدول.

لا يعني ما تقدم أن الأمريكيين سيقفون الآن مع أي عملية تأميم في أي موقع في العالم أو أن التأميم مطلوب أو هو الحل ولكن أردت أن أنقل إليكم كيف يكون الحكم على الأمور منطلقا من ظروف العصر وطبيعة الحدث ودوافعه وآثاره في زمنه.

بعد الخطة الخمسية الأولى أصبحت مصر تتفوق في مؤشراتها الاقتصادية  على بلد مثل كوريا الجنوبية، حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج 173 دولارا، في حين بلغ في كوريا الجنوبية 105 دولارات.

لم تستطع مصر إكمال الخطة الخمسية الثانية بسبب كارثة 1967. نصف الطريق إلى الأمام يتوقف على طريقة فهمنا للماضي واستخلاصنا لعبرة.