المنوعات

عالمية الرواية العمانية .. سـؤال الكتـابة والزمـن والتلقـي

24 يوليو 2018
24 يوليو 2018

منى بنت حبراس السليمية -

بدا سؤال الاستطلاع الذي نشرته مجلة شرق غرب في عددها الأخير (يوليو ٢٠١٨) - وشاركتُ فيه بأجزاء من هذا المقال - عما يحول دون وصول الرواية العمانية إلى العالمية - رغم تحققها محليا ووفرة الإنتاج الروائي العماني في العقدين الأخيرين - بدا سؤالا في غاية السهولة، ولكن الحقيقة التي تكشفت تاليا على العكس من ذلك تماما؛ فقبل أن أخوض في أسباب عدم بلوغ الرواية العمانية مستوى العالمية، أجد من الضرورة بمكان أن نعرف ما الذي نعنيه بالعالمية، فما أخشاه أننا نتحدث عن شيء نختلف في تحديده، ومن ثم سنختلف بطبيعة الحال في الحديث عن كل شيء يليه في سياق هذا الموضوع.

هل العالمية تكمن في محض الترجمة إلى اللغات الأخرى، فيقال تُرجمت الرواية الفلانية إلى أكثر من لغة بصرف النظر عما إذا وجدت من يقرأها بتلك اللغات أم لا؟ أو أن العالمية تكمن في نيل جائزة مهمة على مستوى أبعد من المحلية فتُختصر بذلك مسافات، على رواية أخرى أقل حظا من أن تقطعها، ولا ضمانة للوصول؟ أو تراه المقصود بالعالمية أن تكون الرواية حاضرة في كل معارض الكتب بصرف النظر عن عدد النسخ التي تنفد، أو أخيرا: هو تقييم مواقع القراء وقوائم الـbestseller؟

في ظني – ولست على يقين بعد – أن العالمية هي أن تكون مقروءا في معظم جغرافيات العالم، وإن لم تكن مقروءا فمعروفا لدى مجموعة من القراء في كل بلد، وحيثما حللت تجد شخصا أو اثنين قرأوا لك أو عرفوا باسمك. ماركيز عالمي لأن الجهل باسمه جهل فاقع لا يُقبل من قارئ. هذه هي العالمية كما أظنها؛ عندما يكون الجهل بك عيبا لا يُغتفر.

هل يمكن والحال هذه أن نتكلم عن عالمية في الأدب العربي أو الرواية العربية فضلا عن الرواية العمانية؟ باستثناء أسماء عربية صرنا لا نجادل على عالميتها، بعضها بسبب جائزة عالمية (نجيب محفوظ)، وبعضها بسبب وجودها في الغرب واشتغالها من داخل النسيج الفكري الغربي لتضيف إليه أو تعارضه أو تحاوره (إدوارد سعيد)، أو لتراكم طويل في التجربة بحيث أصبحت تشكل مع الوقت علامة يصعب تجاوزها (أدونيس، عبد الفتاح كيليطو، عبد الكبير الخطيبي).

في موضوع عالمية الأدب هناك محاور مركزية لا بد من الوقوف عندها، حتى يصبح التشخيص متجها نحو آلياتٍ وسبل لتحقيقها، ومن تلك المحاور:

- إن سؤال العالمية سؤال زمني؛ بمعنى أن الزمن كفيل به، فقد تتحقق عالمية رواية ما في وقت ليس هذا أوانه ولا بعد عقد من الزمان، وفي تاريخ الأدب أمثلة كثيرة.

- رغم أن الترجمة إلى اللغات الأخرى لا تحقق وحدها العالمية، ولكنها أساس وجسر مفضٍ إليها، وهنا لا أستطيع تجاهل إغراء الاستشهاد بمقولة كونديرا عندما قال مرة: «ظل رابليه موضع استخفاف مواطنيه، لم يفهمه أحد قط أفضل مما فهمه روسي: باختين؛ ولم يفهم أحد قط دوستويفسكي أفضل مما فهمه فرنسي: أندريه جيد؛ ولم يفهم أحد قط إبسُن أفضل مما فهمه إيرلندي: غ. ب. شاو؛ ولم يفهم أحد جيمس جويس أفضل مما فهمه نمساوي: هيرمان بروخ؛ والأهمية العالمية لجيل عظماء أمريكا الشمالية، همنغواي وفوكنر ودوباس، أظهرها في المقام الأول كتاب فرنسيون».

الترجمة إلى اللغات الأخرى تقودني إلى القول: إن النص ينتقل أحيانا من المحلية إلى العالمية بفعل المصادفة، مصادفة قارئ من ثقافة أخرى وسياق آخر، يضع نصا ما في مقامه الذي لم يضعه فيه سياقه الوطني؛ لذلك فإن الحديث عن عدم جدوى الترجمة الذي يثار أحيانا؛ تحت حجة عدم نضوج التجربة، ليس في محله تماما. على الترجمة إلى اللغات الأخرى أن تنشط، فمن يدري أية مصادفة قد تجمع قارئا من أقاصي الأرض بنص عماني تغير خارطته التاريخية.

- الملحوظة أعلاه تقود إلى أخرى لا تقل أهمية، وقد باتت تغزو أسماعنا من بعض القراء بأنهم لا يقرأون الأدب العماني، وخاصة الرواية العمانية، بل قد يثير موضوع ترجمة الرواية العمانية إلى اللغات الأجنبية سخريتهم، لكونها لا ترقى لجهد الترجمة، بل قد يقهقهون من طموح أن تكون عالمية أو حتى مجرد التفكير فيه، بيد أن كونديرا (أيضا) يطمئننا بأن هذه قاعدة في كل أدب وطني/‏‏ قومي، وليس على الآراء المحبّطة أن تكون عائقا أمام خطط الترجمة إلى اللغات الأخرى.

- من الملحوظتين أعلاه لا ينبغي أن يُفهم أنّ الرواية العمانية رواية عالمية ضمنيا ولا ينقصها غير الظروف التي لم تخدمها، لا، ليس هذا ما ينبغي أن يفهم، فليست القضية قضية ترجمة وتنتهي المشكلة، أو مجرد مصادفة لم تتحقق بقارئ نوعي من ثقافة أخرى يفهم ما لم نفهمه في أدبنا المحلي، مع أنها قد تكون كذلك فعلا! ولكن الزمن الذي قطعته الرواية العمانية منذ نشأتها حتى الآن لا يسمح بعد لأن يجعلنا مطمئنين إلى أنها شكلت هوية محددة وطابعا خاصا، وعندما نسأل عن الهوية التي ينبغي أن تكون عليها رواية في بلد ما، فأقول هو طابع التجربة ذاتها، وهذا مفقود عندنا، لأن الانقطاع سمة بارزة في التجارب الروائية العمانية، فليس هناك خط واضح تستطيع به قراءة تطور تجربة كاتب ما، باستثناء ثلاثة أسماء أو أربعة تستطيع أن ترصد خط التصاعد في تجاربها، فبينما هناك تجارب شكلت بداياتها علامات فارقة في مسيرة تطور الرواية العمانية، ولكنها لا تتيح للمتتبع أفقا لمعاينة وعي الاستمرار ، وهذا أيضا مرهون بالزمن.

بدرية الشحي – على سبيل المثال –استغرقت عقدا كاملا من الزمان ما بين روايتها الأولى وروايتها الثانية، رغم أن هذه ليست مشكلة بحد ذاتها، ولكن لا يمكن عد الثانية حلقة في سلسلة متصلة من تجربتها. لا يعني ذلك بالضرورة أن على الكاتب أن ينجز عددا كبيرا من الروايات حتى يتضح خط الوعي، فسالنجر لم يكتب إلا «الحارس في الحقل الشوفان» ولكنه وصل بها إلى العالمية؛ ليس على كل كاتب أن يكتب بنفسه تاريخا للرواية في عمان، ولكن الأمر متصل بطبيعة الحال بتاريخ الرواية القصير عموما في بلدنا، وهو الذي تشكل كل تجربة فيه صفحة في منجزه.

- سياق السؤال الأساس الذي طرحه الاستطلاع يشير إلى كثافة الإنتاج الروائي في عمان في العقدين الأخيرين، ووُجد دائما من يصف ذلك بالاستسهال واتخاذ جنس الرواية مطية ذلولا لكل من أراد أن يركب موجة الكتابة التي غذت دوافعها مغريات الشهرة السريعة التي تيسرها مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي ظني أن الوفرة في عدد الأعمال الروائية ظاهرة صحية، فليكتب من يشاء. بل أجدني مع أن يكتب الجميع، لأن الوفرة في نهاية المطاف تفرز الجودة، فبين كل عشر روايات رديئة يمكن أن نعثر على رواية واحدة جيدة. ليس لأحد الكلمة الفصل في جودة هذا ورداءة ذاك لأن القراء ليسوا سواء، رغم اتفاقنا على الحد الأدنى من المعايير في تذوقنا لكل فن، ولكن رأي الفرد الواحد منا، إنما هو رأي فئته التي يشترك معها في مستوى التعليم والذائقة والثقافة، ودون ذلك وأعلى منه مستويات لا حصر لها من القراء، ودوائر لا نهائية من الأذواق، فليس أخطر على الإنسان من محاكمة ذائقته، أو منعه من حقه في الكتابة، ويبقى الزمن ناقدنا جميعا.

- الأهم من سؤال: لماذا لم تصل الرواية العمانية إلى العالمية، هو سؤال الكتابة بحد ذاتها، والانشغال بها، والاعتناء بتطويرها من الداخل، أما بلوغها إلى العالمية فتلك مسألة الزمن الذي أؤمن بأنه ناقد كبير، بل أكبر ناقد عرفته البشرية.

- مجددا: لا يجب أن تفهم النقطة السالفة بأنها صك براءة يعفي المؤسسة الثقافية والإعلامية من أدوارهما في دعم النتاج الجيد والدفع به ليكون حاضرا في المشهد العربي والعالمي، فالكاتب العماني – كما تقول بشرى خلفان –ليس تاجرا أو مسوّقا بالضرورة، ولطالما آمنتُ بأن مهمة التسويق للأدب ليست من مسؤوليات مبدعة بقدر ما هي من مسؤوليات دور النشر أولا ومؤسسات الثقافة والإعلام ثانيا.

- هل غيّبتُ دور النقد في تقديم الجيد من نتاجنا الروائي؟ أرجو ألا أبدو كذلك؛ فهذه النقطة محورية جدا في قضيتنا، فالنقد فوق أنه يفرز الجيد ويقدمه للقارئ المحلي والعربي وربما العالمي – دون أن ننسى أنه يحتاج إلى الترجمة هو الآخر – يمثل أداة كشف، ولكنها ليست فاعلة بالشكل الذي يطمح إليه الكاتب والقارئ معا؛ لأسباب ليست خاصة بعمان بطبيعة الحال، ولكنها أزمة عامة في وطننا العربي الكبير. عندما يصبح النقد على مختلف الصعد ركيزة مهمة في جميع مناحي الحياة، سيصبح النقد الأدبي تبعا لذلك الأداة الفاعلة التي نريد؛ لأن الجو العام الذي يضيّق الخناق على النقد بمختلف أشكاله لا يتيح نسيما عليلا لرئة النقد الأدبي.

هذا من جانب، الجانب الآخر: الإبداع إذا كان جهد فرد، فليس النقد كذلك، وإلا فإن عدد الكتّاب أكبر من عدد النقّاد، والحركة النقدية في أي بلد لا تنهض على جهود فردية، على عكس الأدب الذي يمكن أن يحمل رايته أديب واحد يشار له بالبنان فيشار إلى بلده تبعا لذلك.