الملف السياسي

23 يوليو.. يوم عماني فارق

23 يوليو 2018
23 يوليو 2018

عوض بن سعيد باقوير -

صحفــي ومحـــلل ســـياسي -

في حياة الأمم والشعوب هناك أيام فارقة وتحولات تاريخية تغيّر المشهد الوطني بشكل دراماتيكي، وهذا ما حدث في الوطن العزيز سلطنة عمان يوم 23 يوليو 1970 حيث قاد جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- ليس فقط حركة تغيير ولكن أعلن عن بناء الدولة العصرية الحديثة في ذلك اليوم الصعب الذي كان يحتاج إلى قائد يتمتع بالإرادة السياسية لانتشال بلد تعرض للعزلة والصراعات المسلحة وفقدان الأمل للأجيال وغياب التنمية الحقيقية لسنوات طويلة.

وفي ظل صراع مسلح معقد في جنوب السلطنة وقلاقل في شمال البلاد ووجود الإحباط لدى قطاعات من الشعب العماني، كان على جلالة القائد -حفظه الله ورعاه- أن ينظر إلى كل هذه التحديات وأن يبدأ بالعهد الجديد حول تحقيق وعد الدولة العصرية والتي نراها الآن، رأي العين، بعد 48 عاما من التنمية الشاملة والخطط الخمسية والبنية الأساسية التي قاربت على الاكتمال علاوة على انتهاج سياسة خارجية فريدة، متواصلة منذ اليوم الأول من فجر النهضة المباركة.

صلالة وانطلاق المسيرة

عندما يأتي الحديث عن الأحداث الوطنية الكبري يذكر عادة المكان الذي احتضن أهم حدث في تاريخ عمان الحديث، وتظل مدينة صلالة حاضرة محافظة ظفار محفورة في عقول وقلوب العمانيين، حيث تأتي الأخبار المفرحة من هذه المدينة الحالمة على بحر العرب، حيث انطلقت منها مسيرة النهضة المباركة ظهر يوم الخميس الموافق 23 من يوليو 1970، وهو اليوم الذي يعد الانطلاقة الكبرى للوطن العزيز وشعبه الكريم على يدي القيادة الحكيمة والمستنيرة لجلالة السلطان المعظم -أبقاه الله- والذي آمن بقدرات شعبه من خلال الوحدة الوطنية ومن خلال كلمات مؤثرة لجلالته وهي «عفا الله عما سلف» والتي وحدت كل العمانيين في الداخل والخارج.

كانت البلاد في حالة صراع مسلح كما أشرنا استمر لعشر سنوات من عام 1965 وحتى عام 1975 في ظفار، كما شهدت أجزاء من عمان قلاقل وعدم استقرار نتيجة الإشكالات المختلفة، ومن هنا كان على قائد الوطن أن يجد الآليات الذكية والحاسمة لإنهاء تلك المشكلات، حتى تتفرغ البلاد لتحقيق الهدف الوطني الأسمى وهو إقامة الدولة المدنية العصرية.

ولا شك أن الصراعات المسلحة في أي بلد تستنزف الكثير من المقدرات الوطنية وهو ما نراه اليوم في أكثر من بلد عربي من خلال الحروب الأهلية وحالة عدم الاستقرار وغياب الحكم الرشيد والتدخلات الخارجية والفشل في إيجاد الوحدة الوطنية والتي تعد واحدة من أهم الإنجازات في عهد النهضة المباركة

فالوحدة الوطنية كانت من التحديات الأساسية للعهد الجديد ورغم الإمكانيات المتواضعة على صعيد الأدوات الاقتصادية والإعلامية لكن حدث الفرق بسبب كاريزما القيادة والرؤية الثاقبة لجلالة السلطان -أعزه الله- والذي أدرك ومنذ اليوم الأول بانت نهاية الصراعات المسلحة والقلاقل المختلفة مسألة ممكنة ولكن الأهم من ذلك العمل الجاد نحو إيجاد مجتمع عماني متجانس متسامح يعمل بإخلاص من أجل الوطن بعيدا عن الأفق الضيق.

والآن ونحن نحتفل بالذكرى 48 لانطلاق مسيرة النهضة المباركة، من أقصى عمان إلى أقصاها، نستلهم تلك الظروف وتلك التحديات وأن تكون واضحة للأجيال الجديدة حيث تنعم السلطنة ولله الحمد، بالسلام والاستقرار والأمان والتي وضعها في مصاف الدول الأكثر أمنا في العالم حسب المؤشرات الدولية وهذا مكسب كبير لابد من الحفاظ عليه.

السياسة الخارجية

وفي ظل انشغال قيادة جلالة السلطان المعظم مع أبناء عمان المخلصين لانتشال الوطن من المشكلات الكبيرة التي كان يعيشها على الصعيد التنموي خاصة في مجالات التعليم والصحة والطرق، كان لابد من انتهاج سياسة خارجية محددة تميز سلطنة عمان من خلال ثوابت ومبادئ ثابتة ولا تتغير مع الوضع في الاعتبار المتغيرات في المنطقة والعالم من حولها.

وتعد مشكلات الحدود مع الدول المجاورة واحدة من الهواجس الملحة لدى أية دولة لما يمكن أن تسببه من منغصات، ولذا فإن من المنجزات المهمة أنه تم خلال عقدين من الزمن فقط حل كافة الإشكالات الحدودية مع الجارتين اليمن الشقيق والمملكة العربية السعودية الشقيقة، وقبل ذلك وفي بدايات النهضة تم حل موضوع مضيق هرمز حيث أن المياه العميقة الصالحة للملاحة الدولية تقع في الجانب العماني، كما تم حل موضوع الجرف البحري مع كل من إيران وباكستان

وتخطيط الحدود كذلك مع الجارة الشقيقة دولة الإمارات العربية المتحدة وجميعها وفق اتفاقيات دولية، ومن هنا تم الانتهاء من تلك المشكلة المعقدة، والتي لا تزال تشكل مصدرا للهاجس الأمني وللصراعات بين عدد من الدول العربية، وأدت أحيانا إلى حروب بينها. وإذا كان من الصعب في هذه السطور متابعة كل الأحداث والمواقف السياسية التي مرت على السلطنة فإن دور السلطنة المحوري يظل كبيرا في عدد من الملفات المعلن عنها وغير المعلن، ولعل الدور الحيادي الإيجابي للسلطنة أصبح مشهودا في عدد من الملفات، وأبرزها الملف النووي الإيراني مع الغرب وأيضا الوضع في اليمن من خلال الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات والدور الإنساني الكبير الذي لعبته السلطنة لمساعدة الأشقاء في اليمن علاوة على استمرار السلطنة في لعب دور المحفز على تحقيق استقرار المنطقة والسلام والتعاون بين دولها.

كما أن دور السلطنة مع الشقيقة مصر كان حاسما وتاريخيا خلال معاهدة كامب ديفيد ورفض السلطنة قطع علاقتها الدبلوماسية مع القاهرة في حين قطعت معظم الدول العربية علاقتها مع مصر واتضح أن الموقف العماني كان صحيحا

سياسة جلالة السلطان المعظم نحو ترسيخ مبادئ السلام والتسامح والتعايش هي القيم التي يحتاج لها العالم الذي يعيش صراعات وحروبا مدمرة وانتشار الأفكار المتشددة التي تحث على الكراهية ومن هنا فإن جلالته يحظى بالاحترام الكبير من قادة وشعوب العالم من خلال تلك الأطروحات والمبادئ والتي تنم عن خبرة كبيرة وعن تاريخ حضاري كبير للسلطنة ممتد لآلاف السنين، ومن هنا فإن السياسة الخارجية تبقى هي الوجه المشرق لإنجازات النهضة المباركة ومن خلال هذه السطور، ومن خلال الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية الكبيرة ندعو إلى تدريس السياسة الخارجية في الجامعات والكليات في السلطنة حتى يكون الجيل الجديد على اطلاع بتلك السياسة الحكيمة التي حولت السلطنة إلى واحة من الأمن والاستقرار والتعايش.

دور الأجيال الجديدة

ليس من السهل إقامة المنظومة الوطنية والدولة العصرية والمؤسسات المختلفة في ظل تلك التحديات ولكن من خلال رؤية عميقة لقائد الوطن ومثابرته المتواصلة وتحركاته في صحاري وأودية عمان، وقراها ومدنها وجبالها، استطاع جلالته -حفظه الله ورعاه- أن يرسم ملامح تلك الدولة العصرية والتي أصبحت واقعا يعيشه الجميع، ومن هنا فإن ما تحقق من نهضة تنموية شاملة لم يأت جزافا، وهذا يتطلب من الأجيال الجديدة أن تعي أهمية تلك الانطلاقة الكبيرة، ونحن نرى الوطن وأبناءه يبدعون في كل مجال، خاصة في المجالات العلمية والرياضية والطبية، وكل ما يحقق التميز للوطن ومن هنا فإن ذكرى يوم النهضة المباركة لابد أن تلهم الأجيال الجديدة بشكل خاص، إن الوطن يستحق المزيد من العمل والإنتاج والإبداع في ظل وجود المنظومة التعليمية من الجامعات والكليات الحكومية والخاصة وأيضا الابتعاث لأهم الجامعات في الغرب والشرق كما أن ذكرى يوم النهضة تعطي الأجيال الجديدة الأمل بأنهم سوف يواصلون العمل، كيف لا، وعمان هي دولة حضارية يستمد كل جيل من الأجيال قيمة الوطن منذ آلاف السنين، لتبقى عمان دوما وطنا عزيزا غاليا على قلوب العمانيين.

إن ذكرى يوم النهضة العمانية ويوم 23 يوليو من عام 1970 سيبقى يوما مشهودا ويوما نسلتهم منه الإيمان بالعمل وإن تحقيق الإنجازات الكبرى والتحولات التاريخية ممكنة في ظل قيادة آمنت بالوطن وشعبه، ومن هنا سوف يظل باني نهضة عمان الحديثة جلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - الرمز الوطني في تاريخ عمان الحديث الذي أوجد دولة عصرية لها سمعتها الحضارية في العالم. كل عام وجلالة السلطان المعظم في خير وصحة وعافية مواصلا قيادته الحكيمة لعمان وشعبها نحو المزيد من الإنجازات الوطنية في كل المجالات.