أفكار وآراء

«التعددية الثقافية» .. ضحية الحروب القائمة

22 يوليو 2018
22 يوليو 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

هل تفرض «التعددية الثقافية» سطوتها كأهم محدد لاستعمار الشعوب في العصر الحديث، بعد أن فقدت العناصر التقليدية: الموقع الجغرافي الاستراتيجي، الحمولة الاقتصادية؛ المتعددة العوائد، كمسببات للحروب التقليدية، أهميتها وعادت من الماضي؟ أم أنها تتخذها القوى المهيمنة ذريعة فقط -قنطرة عبور- لإيجاد مسوغات غير معلنة لاستعمار الشعوب، وإقامة الحروب، وإثارة الزوابع فيما بينها.

تنجز البشرية كما هائلا من النشاط الإنساني المتعدد الأوجه، والمتنوع النتائج، وهي بذلك تسجل حضورها الدائم على امتداد هذه البسيطة، وهو حضور يميزها عن الكائنات الأخرى التي تتقاسم معها حلو الحياة ومرها، وهو حضور يؤكد قدرتها على البقاء والاستمرار، بغض النظر إن كان هذا البقاء والاستمرار على حساب مع من يتقاسم معها هذه الحياة، أو من يدفع ثمن ذلك من بين أفرادها، المهم أن يكون هناك بقاء -«والبقاء للأصلح» كما يفترض - وأن يكون هناك استمرار – «والاستمرار للأقوى» كما يروج آخرون، ويقينا؛ لم ولن يسجل التاريخ أن هناك لحظة زمنية استطاعت البشرية أن توقف دورتها التطورية، وأن تسترجع أنفاسها لكي تحظى بمراجعة لنتائج أفعالها، وإنما هناك نشاط مستمر لا يهدأ، ومن هنا تحدث مختلف الارتباكات في حيوات البشر، ويتداخل الصح مع الخطأ، ونتيجة لهذا الشطط تتصادم البشرية بعضها ببعض، وتحدث الكوارث الإنسانية، التي تلوم فيها البشرية نفسها، مع أن البشرية ذاتها تضع الحلول والخطط والبرامج للحد من سيئات أفعالها لأنها من يدفع ثمن ذلك بصورة مباشرة وغير مباشرة، وهذا ما يعلي سقف تناقضها، مع أنها تحتكم إلى العقل والمنطق في كثير من جوانب هذا النشاط.

ومما يحز في النفس أكثر، أنه على امتداد هذه المسيرة للبشرية لا تزال تمارس نفس أفعالها المشينة على امتداد هذا التاريخ ولم تستفد من تجاربها للحد من الفعل السيئ الذي يجلب الدمار والكوارث الإنسانية للبشرية جمعاء، وأول هذه الكوارث هي الحروب المستعرة لأهداف معلنة أقلها، وغير معلنة أكثرها، وما يعلن عن أسبابها، ليس سواء مبررات لبقائها واستمرارها، فهل هي حكمة الله في خلقه، وأن الإنسان؛ في الأساس؛ جبل على نوازع الخير، ونوازع الشر، ومتى رجحت كفة الخير، مال إليها، ومتى رجحت كفة الشر، مال معها، كل ذلك مقبول، في ظل واقع يتكرر كل يوم، سواء على مستوى الجمع، أو على مستوى الفرد، فهذا التشابك هو الذي أوجد؛ في الوقت نفسه؛ صورا مختلفة للتعدد، ولو على مستوى الشعب الواحد، وهذا التعدد هو الذي يغذي مشاريع الحروب والمصادمات، والانتصارات أكثر؛ للذات الباحثة عن التميز، والمصرة على معاقبة الآخر، مهما صغر حجم الخطأ الذي ارتكبه، ومجمل المثاليات التي تنادي بها القيم السلوكية الرشيدة التي تضعها البشرية نفسها لتقنين هذا الصدام، هي بمثابة مسكنات توزع على المشاركين في المؤتمرات والملتقيات الدولية، تهدئة للخواطر، وعدم إيقاف مشاريع استباحة الشعوب الإنسانية بذنب أو بغير ذنب.

في العصور البشرية السابقة لم تتضح المسألة التعددية كثيرا، ربما لقلة البشر، وربما لنشاطهم المحدود؛ حيث تكون الصورة متماثلة على مستوى أفق أي تجمع بشري، في بقعة جغرافية ما، وربما أن النوازع الذاتية وشهوات التملك لا تزال في مراحل نموها الأول، ولكن نمو السكان الهائل على امتداد العالم، وقلة الموارد الطبيعية، والنظر أكثر في ما عند الآخر، بدأت الأطماع تأخذ منحى آخر، فانتقلت من محيطها البسيط المحدود، إلى اتساع أفق الامتداد الجغرافي، مما انعكس سلبا على توحدها وتقاربها ولملمة قضاياها المشتركة، والذهاب أكثر إلى إيجاد مبررات ومسوغات للحروب، واحتلال الآخر والقضاء عليه، أو الأقل استحواذ على ما يمتلكه من مقدرات طبيعية ومصنعة للاستفادة منها أكبر في تضخيم آليات الحرب والقوة، وليس؛ كما هو الادعاء؛ للتنمية الإنسانية وإيجاد أكبر مساحة للعيش الكريم، وحتى عندما تقاربت البشرية نفسها إلى الاتفاق على إيجاد مؤسسات تنضوي تحت منظمات أكبر منها، تهدف إلى خلق نوع من السلام، وإلى الانتصار للأمن والسلام، والانتصار للأضعف وحمايته، جاءت النتيجة عكسية تماما، بل بالعكس وجد من خلال هذه المنظمات والمؤسسات المبرر الأكبر أحيانا لشن الحروب على الأقليات التي تتوالد من تحتها التعددية الثقافية، ووجدت مبررات أكثر للقوى الكونية المهيمنة على شعوب العالم الضعيف لأن تجد موطئ قدم، الهدف الظاهري منه، حماية هذه الأقليات، ولكن المخفي كان أعظم وأعظم «إن المنظمات الدولية تكون أساسا وسائل لتقدم المصالح السياسية الجغرافية للدول الغربية الأكثر قوة، وليست دوما آليات لتوحيد وتنمية القيم المشتركة لشعوب العالم» كما يرى ويل كيمليكا في كتابه (أوديسا التعددية الثقافية)، وبالتالي لم تجد الأقليات ذلك الأمان الذي سوغ لأجله الاحتلال، بل بالعكس وجد أن مجموعة «التعددية الثقافية» هو المسوغ الآمن للنفاذ إلى الآخر والقضاء عليه، وانتهاك حرماته، تحت سمع و بصر العالم، الذي وقع راضيا على إنشاء المؤسسات الدولية؛ لأن تقوم بدور الحماية، والانتصار للمظلوم، ولكنها مع مرور الأيام أصبحت تنفذ من خلالها أجندات القوى المهيمنة على العالم وتنفيذ مشاريعها الاستعمارية.

والسؤال الذي يفرض نفسه وفق هذه المناقشة هو: هل تفرض «التعددية الثقافية» سطوتها كأهم محدد لاستعمار الشعوب في العصر الحديث، بعد أن فقدت العناصر التقليدية: الموقع الجغرافي الاستراتيجي، الحمولة الاقتصادية؛ المتعددة العوائد، كمسببات للحروب التقليدية، أهميتها وعادت من الماضي؟ أم أنها تتخذها القوى المهيمنة ذريعة فقط -قنطرة عبور- لإيجاد مسوغات غير معلنة لاستعمار الشعوب، وإقامة الحروب، وإثارة الزوابع فيما بينها، لأنه، كما نرى على الواقع اليوم، هناك حروب عبثية قائمة، وتكلفتها باهظة بكل معنى الكلمة، فالأمر لم يعد أن تحتل دولة دولة أخرى، ويكتوي أبناء الدولة المحتلة بمآس وفواجع ما حل بهم، بل المصيبة أن تثار هذه الشعوب على بعضها البعض في الدولة الواحدة، وبدلا من أن تصطف -كما كان في الماضي- في وجه المحتل، تظل تقاتل بعضها بعضا تحت ذريعة «التعددية الثقافية»: مذاهب، وطوائف، وقبائل، ومهاجرين، وأيدلوجيين في فكر ما، والقائمة تتسع، تحت مبررات غير مقنعة يتكئ عليها، وهو انتصار ظالم لقوى أشد ظلما، ويحدث كل هذا تحت سمع العالم وبصره، دون أن يكون أي انتصار لمفردات قوى الـ«التعددية الثقافية»، وإنما توضع تحت أجنحة ويسافر بها إلى بقع جغرافية أخرى لاتخاذها بضاعة للترويج لها من جديد، وإيجاد مسوغات جديدة للعمل على إقصاء قوى نامية جديدة، ليس أكثر. هناك من يرى أن الأسباب الدينية تأتي في مقدمة المبررات «تاريخيا» ولذلك ظلت هي المحفز الأكبر لإشعال نار الحروب، وهناك من يرى أن التقدم المعرفي يربك الحسابات لدى القوى التي ترى في أركاع الشعوب والحكومات لسطوتها، أهم محفز لإيقاظ هذه الشعوب والحكومات من غفلتها والعمل على تمددها، واستطالة أذرعها، وبالتالي عليها أن توأد أي شعلة من نور تبدأ تشع نورها لمن حولها، وثالث يرى أنه كلما تضخمت صورة «التعددية الثقافية» أعطت الشعوب القدرة على المناكفة والمقارعة واتخاذ المواقف الحازمة تجاه أي قوة تشعر نفسها بامتلاك الآخر.

وبين هذه الرؤى مجتمعة كلها تسجل مجموعة الأحداث التي تعيشها شعوب العالم اليوم، وأبعدها مودة ما تعيشه بعض البلدان العربية حتى هذه اللحظة، فالعناصر الفاعلة في تأجيج الصراعات، تتجاوز في صراعها القائم مسببات الحروب التقليدية، وإلا لاكتفت بما تحقق على أرض الواقع، وأخذت حصتها من الـ«كعكة» كما يقال؛ ولكنها ذهبت بعيدا إلى حيث المناخات الثقافية: الدين، العرق، اللون، القبيلة، المذهبية، والقيم الإنسانية، ولذلك هي غرقت في مستنقع هذه القيم، ولم تفلت منها، ولا يزال الصراع محتدما، إلى أن تعلن هذه التعددية الثقافية انتصارها على الظلم القابع عليها على مدى السنوات العجاف التي مرت، ولا تزال الأحداث -التي توثق هذا التوجه -ماثلة للعيان، ولا تزال جراحها طرية، فحرب الخليج الأولى، والحرب الأفغانية، والحرب الداعشية المستعرة، وثورات الشعوب الحديثة، وغيرها التي لا تزال رحاها مستمرة، حروب كلها أثيرت فيها صور من التعددية الثقافية، وإن كانت مسببات الحروب التقليدية حاضرة، فظلت غير معلنة بصورة مباشرة.