أفكار وآراء

اقتصاديو المستقبل

18 يوليو 2018
18 يوليو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

ظهرت نتائج امتحانات الثانوية العامة (الدبلوم العام)، وباعتبارها السنة المفصلية بين التعليم قبل الجامعي والجامعي فالنقاش حولها من البداية إلى النهاية يتم بصوت عال ووسط قلق وتوتر وترقب أيضا. في المسافة الفاصلة بين ظهور النتائج وتقديم الرغبات إلى المجالس العليا للجامعات، أو جهات التنسيق، لتقوم بتوزيع الطلاب على الكليات التي سجلوها كرغبات وفقا لمجاميعهم، يدور داخل البيوت أوسع حوار حول المستقبل، والكلية التي يفضلها الابن/‏‏ الابنة، أو تفضلها له/‏‏ لها الأسرة. وكثيرا ما يتفاجأ المرء هذه الأيام بأناس لم يلقهم منذ عشرين عاما أو أكثر أو أقل يتصلون به - وبغيره - فجأة ليسألوه النصيحة خاصة في الحالات التي خذل فيها الطالب أهله ولم يحصل على المجموع الدراسي الذي كانوا يتمنونه ليدخل به الكلية التي يتمنونها أيضا سواء بالتوافق مع الطالب أو حتى رغم إرادته. يسأل ولى الأمر ان أسدى إليه النصيحة عما هي الكلية التي سيكون لخريجيها مكانة في سوق العمل بمصر وخارجها، وكيف الوصول إلى أفضل حل- مع المجموع الذي لا يؤهل لكليات القمة والتي هي عادة: الطب والهندسة والإعلام والعلوم السياسية والصيدلة، ولتحقيق أفضل ما يمكن؟ وما هي الفرص التعليمية في الخارج وما المنح التي يمكن الحصول عليها؟ بل ويسأل عما هو ممكن في دول مثل ماليزيا أو جورجيا أو كرواتيا أو روسيا أو رومانيا؟ وهل الشهادات فيها معتمدة دوليا ومقبولة من المجلس الأعلى للجامعات في الوطن الأم؟ نوع جديد من الأسئلة يدل على تعولم التعليم ومحاولة للتشبث بالأمل بأي شكل وبأي تكلفة حتى لو كان الأهل سيشدون الأحزمة على البطون لسنوات من أجل أن ينال ابنهم فرصة حقيقية ومبشرة.

لن أتحدث عما يعنيه ما تقدم بالنسبة لأهمية التعليم في حياة الناس البسيطة بالذات، والمرجو منه، ودروه في الترقي الاجتماعي لملايين المحرومين او المتعبين، لكن الذي جال بخاطرى هذا الأسبوع وبمناسبة الرغبات، وأن كلية (الاقتصاد والعلوم السياسية) وهي التي يتم فيها تدريس الاقتصاد بالانجليزية أو الفرنسية أو بالعربية، هي من بين كليات القمة في مصر وغير مصر من دول المنطقة. هو أين معامل انتاج الاقتصاديين الجدد؟ وأين طلبتنا من أحلامنا الاقتصادية لبلادنا ولمنطقتنا بل ولعالمنا؟

يحلم طلبة العلوم السياسية عادة بدخول وزارات الخارجية والسلك الدبلوماسى، أما طلبة الاقتصاد فلا يحلمون كما نتصور بأن يكونوا اقتصاديين بارزين يصلحون اقتصاد بلدهم ومنطقتهم، ولكن جل حلم الأغلبية الساحقة في تلك الكلية هو العمل بأسواق المال أو البنوك أو الشركات العالمية وفى حالات اقل العمل في مركز بحثي ممول أي مستوى الأجور فيه مرتفع.

سألت نفسى: متى إذا سيطمح أبناؤنا إلى أن يكونوا اقتصاديين لهم فكر اقتصادي عالمي ومتميز محليا في الوقت نفس؟ متى يكونوا من أصحاب النظريات الكبيرة والأفكار التي تغير السائد أو تقصر طريق الوصول إلى التنمية الشاملة والمستدامة والعادلة، حلم كل بلد وكل مواطن؟. متى يسهمون بالاضافة إلى علم الاقتصاد ويؤسسون عربيا لمثل مدرسة لندن للاقتصاد، أو كلية “ كيندى” بـ”هارفارد”، أو كلية الاقتصاد بجامعة “كيل” بشمال ألمانيا الخ؟.

أخشى الا يكون ذلك في ذهن الجيل الحالي بكل ذكائه وحيويته، سواء من كان منه طالبا بأي كلية اقتصاد او بالكليات التي تدرس الاقتصاد (والمالية العامة) عموما. ما تفسير ذلك يا ترى؟ وما انعكاساته؟ وكيف نغير الدفة؟.

لقد شهدت العقود الاربعة السابقة عملية تسخيف ممنهجة لكل فكر نظري، ولكل انتاج تنظيري مهما كان مستواه، ولم يقتصر الامر على حقل العلوم الاجتماعية - والاقتصاد احد فروعها - فقط، بل امتد ايضا للعلوم الاساسية ايضا، ونعنى بها الفيزياء والكيمياء والرياضيات والبيولوجىي أو الأحياء . ويعد ذلك العامل الاخطر تأثيرا على ميول وتوجهات الاجيال الراهنة، وفى الوقت نفسه ركزت الدعاية التي تستهدف الشباب على امور عملية تشغيلية قح لا تفتح أفقا هي الاخرى للتطور الفكري والعلمي، وتقوم على اكثر الفروض بتوفير بعض المال لصاحبها سواء اخذت شكل مشروع صغير أو متناهي الصغر أو حتى تم تسكينه تحت مسمى ريادة الأعمال.

والمؤلم حقا ان من النظم من اتخذ موقفا من كل ما هو فكر أو تربص به أو لم يشجعه أو أهمله قاصدا أو غير قاصد، لكن لم يتوقف الملف عند ذلك، حيث أن المنطقة حرمت نفسها حتى من نهج آسيا الذي قام على التعليم التكنولوجي وتطوير التقنيات مع منح الأفكار التكنولوجية القابلة للتطبيق اهتماما خاصا مع بعض العناية ايضا ولكن بدرجة اقل بكثير بالعلوم النظرية وبالأفكار العلمية الكونية أو الفلسفية الطابع (وهي التي قادت التطور في اوربا ثم امريكا)، اذ كان من شأن العناية بهذا النوع من المداخل التكنولوجية التصديرية والتنموية - وقد رأينا كيف أثمرت فعلا ولا تزال تصنع التفوق لكوريا والصين واليابان - ان يحقق قفزة مطلوبة في مستوى رفع الإنتاجية وتعميق القيمة المضافة وتغيير الثقافة الراكدة بمجتمعاتنا إلى ثقافة ابتكار حتى عند ابسط الناس كما حصل في النمور الآسيوية، وإلى تعزيز ثقة الناس بأنفسهم حين يرون أنهم أنداد لأهل البلاد المتقدمة. ربما يكون الوضع آخذ في التغير نسبيا حاليا حيث أطلق الراحل الدكتور ابراهيم بدران الذي شغل منصب رئيس المجمع العلمي المصري قبل رحيله منذ 3 أعوام، ومن قبلها رئيس جامعة القاهرة ووزير الصحة بمصر، صيحة تنبيه للغافلين للعناية بالتعليم التكنولوجي والبحوث المرتبطة بها وقد أثمرت جهوده إنشاء أول جامعة أهلية بحثية من هذا النوع وهي “النيل“ وفيها ايضا يدرس الطالب مع الهندسة بفروعها ادارة الاعمال وكيفية تحويل فكرته إلى منتج. ثم توالت الكليات الشبيهة في المنطقة لكن لا تزال الفجوة واسعة والمطلوب اكبر بكثير.

أدى إهمال اقامة الشراكات البحثية المبدعة ايضا إلى انصراف طلبة الاقتصاد عن المضي قدما في البحث العملي النظري الذي يضيف إلى المعرفة الانسانية وإلى العلم المعني نفسه. كان عندنا حتى عشرين عاما مضت من هو حريص على مثل هذا التشبيك البحثي مع أرقى جامعات العالم وأن يصب كله في خدمة كل ما هو مصري وما هو عربي، وتوفير فرص لبعثات واستقدام خبرات عالمية لتحاضر على الطلبة وإجراء بحوث مشتركة بمنهجيات شديدة الانضباط وفى موضوعات قرينة بكل ما يخدم أوطاننا وتقدمها. الآن انحصر دور الشراكات البحثية في البحث عن تمويل يمكن من خلاله عمل نوع من رفع قدرات بعض الباحثين ومنحهم مرتبات معقولة حتى لا ييأسوا دون ان يكون هناك نهج متكامل أو رؤية محددة للعملية برمتها.

وقد اضافت الدكتورة هبة حندوسة- من اهم خبيرات التنمية في الوطن العربي- بعدا آخر في هذا الجانب، الا وهو ان الترقيات في الجامعات المصرية والعربية لا تتم غالبا إلا بعد نشر بحوث في مجلات اجنبية محكمة، والباحث الذي يريد النشر بالخارج يخضع لمتطلبات الدورية التي تنشر له وأولياتها، وبالتالي يعمل الباحثون على موضوعات بعيدة كل البعد عن خدمة بلادهم، ولابد والحال كذلك من ايجاد وسيلة لجعل النشر مشتركا وعبر عملية مخططة مع ربطه بهموم بلادنا والدفع باتجاه إقامة مجلات علمية عربية محكمة وذات سمعة.

ربما تكون هناك أسباب أخرى لعدم إقبال الطلاب على الدرس الفكري والنظري، وعلى إنتاج المعرفة المجردة، لكنى أردت ان أشير إلى أهمها في نظري، وأرجو أن أكون قد أفدت.