Randa-New
Randa-New
أعمدة

عطر: حكاية صغيرة

18 يوليو 2018
18 يوليو 2018

رندة صادق -

[email protected] -

حياة الإنسان ليست إلا حكايا عمر وقصص انكسارات ونجاحات، قصص حب وموت، قصص أمومة مضحية وأمومة قاسية، نعم ليست كل الأمهات يتمتعن بالرقة والحنان الذي نحمله في وعينا عن الأم، بعضهن يملكن قلبا غليظا، لا يلين ولا يفكرن إلا بأنفسهن، نحن نميل إلى عدم التصديق أن أمّا تترك رضيعا أو تتخلى عن أطفالها ولكن هذا يحدث، والجرائد تنقل لنا أخبارا كثيرة عن أمهات تركن أطفالهن، أو حتى تركن أزواجهن وتنازلن عن أمومتهن.

إذا عاطفة الأم والتضحية المشهورة بها والتي هي من فطرتها، من المفروض عدم الخروج عنها، إلا أننا نجد أن هناك استثناءات صادمة أحيانا، ومع هذا نجد أن الأبناء يبحثون عن أمهاتهم، يرغبون في حنانهن وفي رؤيتهن والتعرف عليهن .

هذا النموذج الذي ذكرته يقابله نموذجا آخر، يمثل الأم الناكرة لذاتها المتعلقة بأطفالها التي قدمت عمرها فرقا لأعمار أولادها، فعملت وضحت وتحملت وبذلت وقاتلت من أجلهم، بلا هوادة أو تفكير بنفسها وحاجاتها، تلك الأم التي سجلت بطولاتها تاريخيا وكتب عنها أروع القصائد وأشدها إنسانية وجمالا.

علاقة الأم بطفلها، علاقة تبدأ من لحظة الحمل وتكونه في رحمها، وارتباطه بها من خلال حبل السرة، علاقة فيها من السرية والتواصل الغامض الكثير، ولكن مهما تعلق الطفل بأمه، تعلقه بالحياة واختياراته عندما يصبح راشدا أكبر بكثير، وهذا منطق الوجود الإنساني.

وحكاية اليوم صغيرة يمكن تلخيصها: بأم مات زوجها وهي شابة، فأخذت القرار بتربية ابنها الوحيد وعدم التفكير بنفسها، وأرسلته ليدرس خارج الوطن، ولكنه عاد متزوجا بأجنبية ودون علمها، ليخبرها أنه قرر العيش في بلد زوجته، هذه الأم اليوم تعيش وحيدة، لا يزورها أحد، حتى ابنها لا يتصل إلا مرة واحدة بالشهر، ومع مرور الزمن والوحدة الشديدة بدأت الأم تعاني من الزهايمر، وحين تلتقيها بالشارع تجدها تنادي ابنها، تظنه طفلا يلعب مع رفاقه وسيعود قريبا.

هل نخسر أبناءنا حين نعطيهم بلا حدود ونفقد قدرتنا على ربطهم بنا، وهل يجب حقا أن نربيهم بقانون حتمية فقدهم وابتلاع الحياة لهم؟ لا يمكن إعطاء رأي عادل، لأن العدل هنا نسبي، فالأم قامت بواجبها باختيارها وزرعت بانتظار الحصاد الكبير، لكن ابنها اختار حياة مختلفة جغرافيا وثقافيا وابتعد حتى دينيا، وهي التي رفعت سقف توقعاتها كانت النتيجة انسلاخ كلي أصابها في وعيها وفقدت رشدها، ولكن لو نظرنا إلى موقف الولد فهو لا يرى الأمر بهذه القسوة، هو يرى أن عليه أن يؤسس مستقبله، خاصة وأنه وجد الحب وفرص العمل في تلك البلاد، وطبعا زوجته الأجنبية لا تعني لها مفاهيم البر بالوالدين وهذه الحياة لن يدمر مستقبله من أجل أمه، ونسي أن أمه ستواجه المرض والضعف. هل كان من الممكن أن يتغير الأمر لو تركته لأعمامه وتزوجت، هل كان الآن يبحث عنها ليشبع من الحنان الذي افتقده؟ أم كان من الممكن أن يحدث، لكن هذه الأم المنسية اليوم أدت حبها وليس واجبها، أطاعت مشاعرها ولم تفكر أنه واجب عليها، حركتها عاطفة جامحة نحو ابنها ونحو تلك العلاقة العميقة المتجذرة بينها وبينه.

أحيانا لا يمكننا أن نغير من تفاصيل الألم ولكن يمكننا أن نعري الجرح، وهنا فعلا لا يمكن أن نتبع قانون الوسط، فلا يمكن أن نقول لأم كيف تحب وكيف تضحي وكيف تصمد عند التخلي؟ أمهات كثر لهن الله، فغالبا يصبح الأبناء ضيوفا، قد تمر سنوات دون أن يقوموا بواجب الزيارة لأهلهم. حكاية صغيرة إنسانية، كل أم فينا مرشحة أن تكون بطلتها.