الملف السياسي

النتائج المحتملة بين الأزمات الأساسية والفرعية

16 يوليو 2018
16 يوليو 2018

د. صلاح أبونار -

عقدت أمس 16 يوليو قمة ترامب - بوتين في هلسنكي. إذا أردنا صياغة مدخل لبناء توقعات صلبة لنتائجها المحتملة، فربما وجدنا هذا المدخل في التمييز بين الأزمة الأساسية للصراع بين روسيا والتحالف الغربي، والأزمات الفرعية التي تولدت في سياقها.

لا تبدو القمة مؤهلة لحسم أي أزمة. فلا تبدو قادرة على حسم الأزمة الأساسية، وفي الأزمات الفرعية تبدو مؤهلة لدفع بعضها صوب انفراجة، ولكنها لا تبدو مؤهلة لحلها حلا كليا.

ويمكننا رصد ما يشبه الإجماع داخل صفوف الخبراء والساسة الغربيين حول ذلك. ماهي عناصر هذا الإجماع؟

في وجهه الأول والأوسع طرحا يرصد العناصر السلبية في منهج اتخاذ الإدارة الأمريكية لقرار الاجتماع، مطروحا في إطار خياراتها السياسية الخارجية العامة. لا يعارض أحد الاجتماع في حد ذاته، بل يرونه مقامرة لن يخرج منها ترامب بمكاسب تتناسب مع حجمها، وسيربح بوتين قبل حضور الاجتماعات، ومهما كانت نتائجها. ولا يرون المقدمات الصانعة لقرار الاجتماع داخل مكونات الموقف السياسي، بل داخل أسلوب ترامب للإدارة السياسية. أي الأحادية، وتخطي منطق التحالفات السياسية المؤطرة للحركة، والثقة المفرطة في القدرات التفاوضية للرئيس الصانع الأكبر للصفقات، والرغبة في اقتناص تنازل يمكن تسويقه سياسيا، واستهانة بالإجماع السياسي والمؤسسات الناظمة له والخبرة السياسية المتولدة في إطاره، والميل الواضح والصريح للتعامل الاحتفائي مع قيادات مثل بوتين وكيم. ويرصدون توجهات ترامب الخارجية المصاحبة لقرار الاجتماع، تشكل مؤشرات سلبية تماما على مساره المرجح. ويذكرون في هذا الصدد أزمة قمة السبع الكبار في كيبيك وسحب التوقيع الأمريكي على بيانها الختامي، وقرار القمة الكورية ونتيجتها، والحرب التجارية التي اعلنها ترامب على الاتحاد الأوروبي ، وفي النهاية قمة الناتو في بروكسل والتوترات التي صاحبتها من سخرية ترامب العلنية من المنظمة: (الناتو سيئ مثل النافتا)، إلى اشتباكه الحاد مع ميركل. ويرون فيها تفتيتا للصف الأطلسي، ومؤشرات على صعوبة التنبؤ بسلوك ترامب، الأمر الذي يجعله اجتماعا منطويا على احتمالات خطرة.

وفي وجهه الثاني والأضيق طرحا سنجد معالجة لطبيعة الأزمة الحاكمة للعلاقات الروسية - الغربية، والتفاوت الحاد بينها ومدخل إدارة ترامب لمعالجتها. تتجسد تلك الأزمة في ظواهر متعددة. التدخلات الروسية في شرق أوروبا من جورجيا إلى أوكرانيا إلى القرم، بالتوازي مع تدخلات إقليمية في الشرق الأوسط كما حدث في سوريا. وتدخلات وأدوار سياسية نشطة في أوروبا وأمريكا، عبر التدخل في العمليات الانتخابية، والتحالف مع التيارات الشعبوية عبر دعمها سياسيا وماليا، والهجمات الدعائية. هذه العمليات تتسع على امتداد العالم، لكنها تتكاثف في مجال روسيا الحيوي ومناطق أدوارها الكبري القديمة. هذا الدور الروسي في مجاله الأوروبي بالتحديد، جاء في مساحة منه ردا على انتهاكات أوروبية لما تعتبره روسيا تقليديا مجالها الحيوي في شرق أوروبا.

يصف ديمتري تيرنين هذه الصراعات بمصطلح: الحرب الهجين. وهي وفقا لتحليله تجري في مجالات مختلفة، وتتسم بديناميكية عالية، وتخاض على الجبهات الخارجية والداخلية، وتدور في سياق نظام عالمي اكثر اندماجا وتكاملا من نظام القطبية الثنائية. والأخطر أنها تدور بين قطبين غير متكافئي القوة على عكس الحرب الباردة، فالتوازن لصالح أمريكا في كافة الجوانب فيما عدا القوة النووية، إلا أن ذلك لا يعني أن روسيا في طريقها للاستسلام. بل تصر على خوض معاركها بطرق وأساليب مختلفة، من خلال جعل الخصم على الدوام في حالة فقدان للتوازن، والانتشار على أوسع نطاق جغرافي، والتصرف بأسلوب ينطوي على مخاطرة عالية، واللعب المتواصل على تناقضات الخصوم، وبناء شبكة من التحالفات المحلية والإقليمية، والعمل العدواني في مجال المعلومات، والتدخل العسكري المباشر حينما تسمح التوازنات.

وما الذي قاد إلى هذا الوضع؟ خرجت روسيا من الحرب الباردة مستنزفة وغير متوازنة اقتصاديا، وزاخرة بالصراعات القومية والأثنية، وهياكلها السياسية مفككة. لكنها خرجت من جهة ثانية قوة نووية عظمى، تمتلك مخزونا من البحث العلمي، وطبقة من الكوادر العسكرية والعلمية والمهنية رفيعة المستوى، وبيروقراطية متمرسة وذات تراث تسلطي ومحافظ. ثم خرجت من جهة ثالثة وهي تحمل تراثا ثقافيا عالميا حديثا ثريا، وذاكرة تاريخية تعي تاريخ روسيا الطويل، وتراكم حضاري كفيل بتوليد روح وطنية متأججة. وكان ذلك يعني أن الغرب في اقترابه من روسيا، كان يجب أن يراعي خصوصية مكوناتها. فيدمجها في نظام أوروبي متوازن للأمن الجماعي، ولا يتجاوز حساباتها الأمنية، ويراعي خصوصياتها الحضارية وحسها القومي والتكوين المحافظ لنخبها المسيطرة. ولكن الغرب المنتصر قرر استكمال إخضاع روسيا بعد نهاية الحرب الباردة. وجاء ذلك من خلال توسع الناتو شرقا والدعم المنظم للحركات المدنية الاحتجاجية في دول محيطها الجغرافي، التي وصلت إلى أوجها في الثورات الملونة، ثم سعت لنقلها إلى روسيا ذاتها. ثم من خلال إقصائها عن إدارة النظام الدولي الجديد الذي تولت أمريكا بمفردها تحديده وإدارته منذ 1991. وعندما انتهت فترة النقاهة الروسية، ووصلت نخبة جديدة للسلطة بصحبة بوتين، انطلق رد الفعل الروسي عام 2014 بأزمة أوكرانيا، إلا أن الصراعات كانت حاضرة ويتأجل انطلاقها خلال رئاسة بوتين الأولى، ومع رئاسته الثانية جاءت أزمة أوكرانيا لتطلق العنان للبخار الروسي المكتوم.

وتلك هي الأزمة الأصيلة أو الأساسية الحاكمة للصراع بين الطرفين. ومن البديهي أن أزمة من هذا النمط لا يمكن لقمة أن تقترب منها، لأنها أزمة هيكلية تتعلق بمجمل النظامين الدولي والأوروبي وعلاقات التراتبية والهيمنة فيهما، وستحتاج لفترة طويلة لمعالجتها تجري فيها عمليات هدم وبناء. وغاية ما يمكن للقمة أن تفعله الاتفاق على ضوابط وحدود لإدارة الصراعات المترتبة عليها.

ولكن القمة في مجال الأزمات الفرعية يمكنها أن تنجز أمرين. أولهما انجاز دعائي، سيتمثل في الاتفاق على تقدم في مجال نزع السلاح النووي، وبالتحديد في مجال تجديد العمل باتفاقية ستارت للفترة من 2021 إلى2026، وهي اتفاقية لا خلافات جذرية عليها وانتهت دورتها الأولى عام 2017، بالتزام الطرفين الكامل بالتخفيضات المنصوص عليها، ومع رئاسة ترامب تقدم بوتين بعرض تجديدها بذات الشروط. وثانيهما التقدم في مجال حل ازمتي سوريا والقرم، وتبدو الأزمة السورية الأكثر ترجيحا للتقدم فيها.

شهدت الأزمة السورية في الفترة الأخيرة تطورات مهمة، وما يهمنا هنا أزمة دير الزور أبريل 2018.عندما قام الأمريكيون بقصف القوات السورية في قاعدة دير الزور، وردا على ذلك هددت روسيا عبر تصريحات قيادات كبيرة، انه إذا تعرضت مواقعها للقصف، سترد على المصدر الأمريكي المباشر للنيران. وكانت الحصيلة ادراك أن الوضع في سوريا قد يقود إلى مواجهة مباشرة. وفي هذا السياق متفاعلا مع سياق إلغاء الاتفاقية النووية، سيسعى ترامب لعقد صفقة حول سوريا، ملامحها تحجيم الدور الإيراني في الأزمة السورية، عبر إبعاد قوات حزب الله عن الحدود الإسرائيلية، في مقابل إسقاط واشنطون لشرط رحيل الأسد في سياق التسوية النهائية للازمة. وثمة مؤشرات تفيد أن الفكرة طرحت للنقاش خلال زيارة بولتون الأخيرة لموسكو، ونوقشت عبر قنوات التواصل الإقليمي، وتحظى بقبول روسي أولي. إلا أنها صفقة محملة بالمخاطر، فبوتين لن يكون مستعدا للابتعاد عن ايران مقابل تقارب مع رئيس أمريكي يواجه معارضة جارفة لسياساته داخليا وخارجيا.

وفي المقابل هناك معلومات متداولة حول صفقة محتملة حول القرم، مصدرها ملاحظة نسبت إلى ترامب في قمة كيبيك، تفيد تعجبه من رفض أوروبا لضم روسيا للقرم، لان القرم يتحدث اغلب أهلها الروسية. وقبيل ذهابه لأوروبا لحضور قمة بروكسل، رد ترامب على سؤال حول ما سيفعله مع بوتين بشان القرم، قائلا: (سنري وسنتكلم معا في كل شئ). وأثارت العبارة القلق، خوفا من أن لا تكون تعبيرا عفويا، ورغم رفض المتحدث الرسمي للبيت الأبيض لهذا الفهم تتقدم صورة ترامب كسياسي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، لكي تحافظ على درجة من الاحتمالية. إلا أن الحسابات الموضوعية تفيد أنها مساومة لا يمكن تمريرها، فهي كفيلة بهدم التحالف الأطلسي وسيرفضها البنتاجون. ولا يمكن الآن إطلاق تفاوض جاد حول تلك المشكلة، لأنها مجرد عرض للمشكلة الأساسية التي اشرنا إليها.

في السياسة الدولية هناك دائما واقع سياسي ومسرح سياسي، وفي اكثر حالاتها واقعية يستحيل خلوها من هذا المسرح. المسرح السياسي جزء من عمليات الصراع والتفاوض، ولكنه يتفاوت في وجوده من حالة إلى أخرى.

وفي هلسنكي تبدو السياسة الواقعية قليلة الحضور، ويحتل المسرح السياسي الصدارة. وقد يسفر الحدث عن توافقات لافتة، ولكن عند فحصها بعمق سنجدها بلا أساس ولن تصمد للاختبار العملي.