الملف السياسي

هل يوظف ترامب الورقة الروسية لإعادة هيكلة «الأطلنطي» ؟

16 يوليو 2018
16 يوليو 2018

عماد عريان -

«تبقى «مؤسسة القمة» بين واشنطن وموسكو أحد الأذرع المهمة في ضبط إيقاع العلاقات الدولية ونزع فتيل التوتر المتصاعد عند درجات معينة من السخونة، قبل الوصول لمرحلة الانفجار حفاظا على السلم والأمن الدوليين، وذلك منذ لقاءات يالطا وبوتسدام غداة نهاية الحرب العالمية الثانية وصولا إلى قمم الانفراج وسياسات نزع السلاح في السبعينات من القرن الماضي»

وخلال تلك العقود المتتالية كان هناك حرص شديد على تفعيل مؤسسة القمة الأمريكية/‏‏السوفيتية (الروسية) لبحث قضايا ثنائية ودولية عديدة سواء بحثا عن حلول لها أو تقديم مزيد من الدعم والزخم لتكريس العمل المشترك، وعادة ما عقدت تلك القمم وسط ظروف دولية متغيرة ما بين الصعود والهبوط لقضايا معينة، إلا أن القمة الأخيرة بين بوتين وترامب جاءت في ظروف مختلفة فقد استبق ترامب وصوله إلى بروكسل للمشاركة في قمة قادة دول الحلف الأطلنطي بشن هجوم عنيف على شركاء بلاده الأوروبيين في الحلف، وطالبهم بـ تسديد متأخرات مالية نظير حماية واشنطن لهم، وخلال مشاركته في القمة الثامنة والعشرين للحلف، شدد ترامب مجددا على مبدأ تقاسم الأعباء الدفاعية، مؤكدا أنه لا أمن بالمجان، وندد ترامب بتحمل بلاده ما قيمته 70% من إجمالي كلفة نفقات الناتو بتخصيصها نحو 4% من موازنتها السنوية للإنفاق الدفاعي، في الوقت الذي تصر غالبية الدول الـ29 الأعضاء في الأطلنطي على عدم الالتزام بتعهدها تخصيص 2 % من إجمالي ناتجها المحلي للنفقات الدفاعية بحلول عام 2024، وفى حين لا توجد ميزانية دفاعية خاصة لحلف الناتو، إلا أن كل الدول الأعضاء فيه والبالغ عددها 29 دولة، منها 22 دولة من بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبالغ عددها 28 دولة، اتفقت على إنفاق 2 % من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي السنوي لها على الدفاع. فيما يبحث القادة الرئيسيون في الاتحاد الأوروبي عن صيغة ذاتية لا تعتمد كلياً على الولايات المتحدة لتوفير الأمن والحماية لدول القارة العجوز، التي تستفيد من حماية الناتو أكثر من واشنطن، ويأبى ترامب إلا الربط ما بين الشراكة الدفاعية والتجارية في العلاقة مع الحلفاء بالناتو، حيث يرى أن واشنطن تنفق عليهم دفاعيا بينما هم في المقابل يعاملونها معاملة تجارية مجحفة.

من جانبها، تخشى الدول الأوروبية من أن يتغاضى الرئيس الأمريكي، الذي لا يزال يواجه التحقيقات في شأن تدخّل موسكو في الانتخابات الرئاسية، عن البحث في بعض هذه القضايا، كما تتخوف من أن يقدم ترامب، الذي كلف جون بولتون بالسفر الى موسكو لطرح إطار القمة بهدف تحسين العلاقات بين البلدين التي لم تصل إلى هذا المستوى المتدني منذ الحرب الباردة، على تقديم تنازلات أو تعهدات إلى نظيره الروسي الذي يتهمه الأوروبيون بالعمل مع ترامب على تقويض الاتحاد الأوروبي، والتعاون سويا من أجل محاصرة الصين والحيلولة دون حدوث تحالف استراتيجي بين بكين وموسكو يأتي هذا بينما تتفاقم حالة عدم الارتياح الأوروبي إزاء التفاهمات الأمريكية الروسية حول سوريا والتي ترمي إلى الاعتراف بالأسد والسماح له بالبقاء على رأس السلطة في سوريا، رغم كل ما حدث، مقابل سعيه إلى إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، هذا بينما ترفض دول أوروبية عديدة القبول بمبدأ شرعية الأمر الواقع، كما تأبى المساهمة في إعمار سوريا ما لم يحصل انتقال سياسي فيها.

لكن، وعلى رغم كافة الخلافات، يظل الناتو أوثق وشيجة تقارب استراتيجي بين ضفتي الأطلنطي في مواجهة روسيا وتهديداتها القائمة والمحتملة، خصوصا بعد اندلاع أزمة أوكرانيا عام 2014، إذ رفع الأوروبيون خلال قمة الناتو الحالية شعار «الحفاظ على الوحدة»، كذلك، لم تتوقف مبادرات الحلف وإجراءاته لتعزيز قدراته تحسبا لأية مفاجآت غير سارة من أي اتجاه.

فمن المقرر أن يوقع الحلف مع الاتحاد الأوروبي اتفاقا لتعزيز التعاون بين الجانبين، في الوقت الذي ستحصل مقدونيا على دعوة للانضمام إلى الناتو، وذلك بعد حل نزاع مستمر منذ فترة طويلة مع دولة اليونان المجاورة حول اسم مقدونيا و كذلك، وقّع أعضاء الحلف العديد من الإجراءات التي تم إعدادها من أجل القمة الأخيرة، من أبرزها: مبادرة ذات درجة عالية من الجاهزية، ستمكن الناتو من حشد 30 كتيبة برية و30 سربا جويا و30 سفينة قتالية في غضون 30 يوما، يأتي هذا في الوقت الذي تقرر إنشاء مركزين جديدين للقيادة في الولايات المتحدة وألمانيا، للمساعدة في التعامل السريع مع التحديات المستقبلية، وعلاوة على ذلك، فإن الحلف بصدد إطلاق بعثة تدريب جديدة في العراق وتمديد تمويله لقوات الأمن الأفغانية حتى عام 2024، في إطار جهوده لمحاربة الإرهاب، وضمن مساعيه لزيادة القدرات الدفاعية للحلف، ردا على العدوان الروسي، وذلك بعد غزو موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014 ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا.

وفى دلالة لافتة على استخدام ترامب للورقة الروسية كأداة استقطاب في العلاقات الأمريكية الأوروبية، وفي مسعى منه لموازنة إشاراته الإيجابية السابقة حيال الكرملين، الذي وصف ناطق باسمه الناتو بأنه «ثمرة الحرب الباردة»، ويستهدف مواجهة روسيا على المدى البعيد من خلال التقدّم نحو حدودها، وتطوير بنيته التحتية العسكرية في اتجاهها،عاد ترامب وعبر قبيل سويعات من انطلاق قمة الناتو في بروكسل عن استيائه من التعاون الألماني الروسي في مجال الطاقة، مؤكدا أن ألمانيا خاضعة لسيطرة كاملة من روسيا بسبب اتفاق خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» مع موسكو، لنقل الطاقة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق والذي وصفه بغير الملائم، مشددا على أنه من المحزن أن تبرم ألمانيا صفقة ضخمة تتعلق بالنفط والغاز مع روسيا تجنى من ورائها الأخيرة مليارات اليوروهات سنويا، في الوقت الذي يفترض فيه التزام الأوروبيين جانب الحذر تجاه روسيا، إذ تخشى دول شرق أوروبا وأوكرانيا من أن المشروع المثير للجدل الذي سيقيمه عملاق الغاز الروسي “جازبروم” سيحرمها من نقل الغاز عبر أراضيها على المدى الطويل.

وبينما رجح ترامب قبيل توجهه إلى أوروبا بأن يكون لقاؤه بنظيره الروسي بوتين في هلسنكي الجزء الأسهل في جولته الأوروبية، حذّر رئيس الاتحاد الأوروبي الرئيس الأمريكي من الاستخفاف بدول الحلف، ونبهه الى أن يدرك لدى لقائه بوتين «من هو صديقه الاستراتيجي ومن هو عدوه الاستراتيجي»، وحينما سُئل ترامب هل بوتين عدو أم صديق بالنسبة له، أجاب: «إنه خصم أو منافس»، ثم ما لبث ترامب أن عبر عن ثقته في إمكانية إيجاد حلول لكافة القضايا الخلافية العالقة مع الأوروبيين.

في السياق ذاته، وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن ترامب ليس مطلق الحرية في إدارة العلاقات مع موسكو، حيث يكبله الكونجرس بعقوبات فرضها على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا واضطر بوتين للتوقيع عليها، فمنذ حملته الرئاسية ألمح ترامب لإمكانية التعاون مع بوتين، لكن دوائر أمريكية حالت دون ذلك واتهمت روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لمصلحة ترامب، ما يعني أن الرئيس الأمريكي لن يستطيع الذهاب بعيدا وبشكل أعمق في تطوير العلاقات مع موسكو أو الإمعان في التقارب الاستراتيجي مع نظيره الروسي ولكن تظل لـ(مؤسسة) القمة الأمريكية - الروسية أهميتها الكبرى في ضبط إيقاع العلاقات بين البلدين ليس فقط على صعيد القضايا الثنائية الشائكة ولكن أيضا بالنسبة للقضايا الدولية الكبرى وذات الطبيعة المتفجرة وذلك حرصا على السلم والأمن الدوليين بغض النظر عن لعبة «عض الأصابع» التي تمارسها القوى العظمى بين فينة وأخرى لتحقيق مكاسب كبرى.