أفكار وآراء

دلالات تطهير «تويتر» من الذباب

15 يوليو 2018
15 يوليو 2018

أ.د. حسني نصر -

في واحدة من الإصلاحات العاجلة لاستعادة الثقة، يواصل موقع التواصل الاجتماعي الشهير «تويتر» منذ مطلع الأسبوع الماضي حملته المكثفة واسعة النطاق للتخلص من ملايين الحسابات المزيفة والوهمية المسؤولة عن ظاهرة اللجان الإلكترونية التي تحولت إلى جيوش إلكترونية، ثم إلى ذباب إلكتروني تزايد انتشاره في السنوات الأخيرة، وكاد يعصف بمصداقية الشبكة العالمية وثقة المستخدمين فيها.

ورغم أن عملية تعقب وإغلاق الحسابات الآلية المزيفة على تويتر، كانت قد بدأت في أكتوبر من العام الماضي، بعد أن اعترفت الشبكة، تحت ضغوط من الكونجرس الأمريكي، بقيام جماعات في روسيا باستخدام هذه الحسابات للتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة في 2016، فإن هذه العملية شهدت زخما مضاعفا في الأيام الأخيرة، نتج عنها إغلاق نحو مليون حساب يوميا. وتقدر مصادر متعددة إجمالي عدد الحسابات التي تم حذفها من تويتر حتى الآن بنحو 70 مليون حساب، تمثل ما يقرب من خمس عدد الحسابات المسجلة عليها والتي تبلغ نحو 336 مليونا.

سمها ما شئت، حملة تطهير، أو تنظيف، أو حتى مذبحة للحسابات الزائفة على تويتر، فالمعنى واحد والهدف واحد، وهو الحفاظ على نظافة الشبكة العالمية لكى تبقى منصة حرة لتداول الأخبار والمعلومات والآراء، خالية إلى حد كبير من الأخبار المزيفة وخطابات العنف والكراهية والإرهاب. ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تضطر فيها إدارة تويتر إلى إغلاق الحسابات المشكوك فيها، خاصة تلك التي تروج للكراهية والإرهاب، وهو ما جعل البعض يتهمها بالتضييق علي حرية التعبير، فإنها ربما تكون المرة الأولى التي يجمع فيها مستخدمو الموقع على مساندة الشبكة في هذا الإجراء من منطلق أن الحسابات الآلية المزعجة أصبحت تعوق بالفعل الاستخدام الآمن والفعال لها. نعم أخذت هذه الحملة من رصيد عدد مستخدمي تويتر ولكنها في الوقت نفسه أعادت جزءا كبيرا من الاعتبار لها، وظهر ذلك في ارتفاع اسهم الشركة والقيمة السوقية لها في البورصات العالمية. وفي تقديري أن من شأن هذه الخطوة أن تعيد ملايين المستخدمين الجادين إلى تويتر مرة أخرى، بعد أن هجروها بسبب الحسابات المزيفة والآلية المزعجة التي تغرد وتعيد التغريد لمئات المرات لنشر الأكاذيب والمعلومات المضللة.

لا شك أن ما قام به تويتر سوف يزعج أطرافا كثيرة في العالم، خاصة بعض الحكومات التي تنبهت مبكرا إلى الدور الكبير الذي لعبته تلك الشبكة وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي في تشكيل ودعم الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، التي تحولت إلى ثورات شعبية في بعض الدول. ومن هنا دخلت الحكومات هذه المنصات بكل ثقلها عبر ما يسمي باللجان والجيوش الإلكترونية. وقد تم إنشاء هذه الجيوش في البداية بهدف تتبع واختراق حسابات المعارضين والناشطين والإبلاغ عنها بأعداد كبيرة لدفع الشبكات إلى إغلاقها. وبعد نجاحها في ذلك تضخمت هذه الجيوش وأسندت لها مهمة إنشاء الآف الحسابات الوهمية بأسماء مستعارة تنشر آليا أخبارا كاذبة ومضللة، وتهدد من خلالها النشطاء والسياسيين المعارضين. ومع تزايد خبرة هذه الجيوش أصبحت تطلق الوسوم المؤيدة للأنظمة في مواجهة الوسوم المعارضة لها، كما أصبحت منصة للسب والقذف والإهانة والتشهير والتحريض على العنف ضد المخالفين لها. وتضم هذه الجيوش مجموعات مدربة من المبرمجين الذين يستخدمون برامج تخترق مواقع التواصل الاجتماعي، وإنشاء عدد ضخم من الحسابات بأسماء وهمية،ثم استخدامها آليا في الصراع المعلوماتي. إذ يمكنها إعادة نشر معلومات وآراء بشكل موحد ليبدو كما لو كان يمثل الرأي العام، كما يمكنها أن توحد الهجوم على دولة أخرى أو هيئة أو مؤسسة.

وقد دفع الدور المشبوه لهذه اللجان والجيوش في بعض النزاعات الدولية والإقليمية الأخيرة، البعض إلى تسميتها بظاهرة «الذباب الإلكتروني» في إشارة إلى الطنين المزعج الذي تحدثه الحسابات الآلية المزيفة، والتي يتم توجيهها للمشاركة في النقاش على منصات التواصل الاجتماعي للدفاع عن الجهة أو الدولة التي تنفق عليها، والهجوم على خصومها. وتمثل الخطوة الأخيرة التي قامت بها تويتر لتطهير منصتها الاجتماعية ضربة كبيرة لهذا الذباب. ومع التخلص من أعداد كبيرة من هذه الحسابات المبرمجة لن يكون في استطاعة هؤلاء استغلال الشبكة لتوجيه الرأي العام والتأثير فيه من خلال النشر الفوري والمتزامن للتغريدات، وبالتالي لن يكون في استطاعتهم التأثير بسهولة في قائمة الوسوم الأكثر تداولا وشهرة. وتشير التقارير التي نشرها بعض المؤثرين من أصحاب الحسابات التي تستقطب ملايين المتابعين إلى انخفاض ملموس في عدد المتابعين ناتج في الأساس عن إلغاء تويتر للحسابات المزيفة. وعلى سبيل المثال فقد خسر حساب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نحو 300 ألف متابع، كما خسر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مليوني متابع. والطريف في الأمر أن الرئيس ترامب بدا مـتأثرا بشكل كبير بفقدان هذا العدد من متابعيه، خاصة وانه يستخدم حسابه كمنصة إعلامية أساسية لنشر أخباره وآرائه، في مواجهة رفض إعلامي واسع له من كبريات الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية. وقد استغل ترامب المنصة نفسها للمطالبة بإغلاق حسابي صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست على توتير بزعم انهما ينشران أخبارا كاذبة.

إن تصحيح مسار شبكات التواصل الاجتماعي سيكون في صالح الجميع على المدى الطويل. إذ من المتوقع أن تنخفض نسبة الأخبار الكاذبة والمضللة على هذه الشبكات، كما سيؤدي إلى مزيد من الثقة فيها كمؤشر حقيقي للرأي العام، وهو ما يصب في دعم ديمقراطية الإعلام الاجتماعي ويعزز الحق الإنساني في الحصول علي المعلومات وتبادلها بحرية. وإذا كان من السابق لأوانه تقدير حجم المكاسب الناجمة عن حملة التطهير التي بدأها تويتر للحسابات المزيفة والمعطلة والخاملة، فإن المجتمع الإنساني بصفة عامة ومجتمع توتير علي وجه الخصوص هو الرابح الأول من هذا التطهير. وفي ضوء ذلك فإننا نأمل أن يمتد تطهير تويتر من الذباب الإلكتروني واللجان والجيوش الإلكترونية إلي جميع شبكات التواصل الاجتماعي الأخرى، ووضع حد لتوظيف هذه المنصات العالمية في الصراعات الدولية والإقليمية والوطنية، إذ من المهم لحاضر ومستقبل البشرية أن تبقى هذه المواقع ساحة للتدفق الحر للمعلومات، ومنصات لتبادل الأخبار، ونوافذ للتعبير الحر عن الآراء، دون أن تعكر صفوها لجان أو جيوش أو ذباب.