أفكار وآراء

الانتصار الذي يتمناه المستوطنون.. ولن يتحقق !!

14 يوليو 2018
14 يوليو 2018

د. عبد العاطي محمد -

يتصاعد صوت المستوطنين الإسرائيليين هذه الأيام للترويج لما يسمونه تحقيق الانتصار الساحق لإسرائيل على الفلسطينيين، ويجدون في ذلك تشجيعا من الحكومة الإسرائيلية ذاتها، ومن بعيد تشجيعا أمريكيا أيضا، كل بوسائله ومقترحاته الخاصة.

والخطة هنا هي التوسع الكبير والسريع في بناء المستوطنات في القدس بوجه خاص وبقية الضفة بوجه عام، والعمل على إضعاف السلطة الفلسطينية والرئيس عباس إلى حد كبير، طالما لا يريد العودة للمفاوضات، بينما تسعى إدارة ترامب إلى إغراء غزة بالانفصال من خلال الترويج لفكرة الاستعداد للتقدم بجزرة تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع!.

يشدد المستوطنون من خلال قنواتهم الإعلامية وبلسان الكثيرين من الخبراء والسياسيين بل وبعض الوزراء في الحكومة الإسرائيلية على أن اتفاق أوسلو قد سقط تماما ويجب أن يتجه اهتمام الحكومة إلى تحقيق ما عجز عنه هذا الاتفاق لإجبار الفلسطينيين في الضفة على قبول العيش مستقبلا في ظل حكم ذاتى فقط تحت السيادة المطلقة لإسرائيل وداخل ما يتبقى من الضفة، وأما بالنسبة لغزة فإن الحل هو فصلها تماما عن الضفة في إطار ما يسمى بصفقة القرن ويقصد بذلك إضافة بعض الأراضي المصرية من سيناء إليها -وقد رفضت مصر بشكل حاسم وواضح التنازل عن أية أراض مصرية تحت أي مسمى- لتكون غزة كيانا سياسيا مستقلا تحت أي مسمى، مع إنعاشها اقتصاديا عبر عدة مشروعات لن تتردد الإدارة الأمريكية الحالية في تمويلها جزئيا وتتكفل دول عربية غنية بالجانب الأكبر من التمويل.

والمعروف أن اتفاق أوسلو الموقع العام 1993 هو الذي أسس لقيام السلطة الفلسطينية وقبلته على أساس أنه خطوة نحو إقامة الدولة الفلسطينية، حيث وضع أقدام الفلسطينيين لأول مرة على الأرض ومنحهم سلطة وهوية دولية. ولكنه وضع قيودا عديدة على تحركات الفلسطينيين مستقبلا لتحقيق حلم الدولة، وهي قيود معلومة للكافة وكانت سببا رئيسيا في الانقسام الفلسطيني منذ ذلك الوقت وحتى الآن لأنه أسقط مبدأ الكفاح المسلح أو المقاومة واستبدلها بمبدأ المفاوضات. وعلى الجانب الآخر نظر الإسرائيليون للاتفاق على أنه مقدمة للاعتراف الصريح والعلني من جانب الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل، ذلك الاعتراف الذي لو تحقق يعني ضمنيا أنه لا حق للفلسطينيين من الأصل في إقامة دولتهم وبالتالي لا حق لهم في كل ما أصبح يسمى بقضايا الحل النهائي من حدود ومياه وعودة للاجئين والعاصمة القدس. ومنذ ذلك الوقت ظلت المشكلات بين الجانبين قائمة وبشدة وكانت النتيجة أن الاتفاق لم يحقق ما كان يأمله من وافقوا عليه، حيث لم تقدم حكومات إسرائيل شيئا يذكر للفلسطينيين في هذه القضايا، ولم تعترف السلطة بيهودية الدولة وإن كانت اعترفت بوجود دولة إسرائيل والفرق بين المفهومين كبير جدا، كما لم تنجح السلطة في وقف المقاومة سلمية كانت أم مسلحة. ومع ذلك يصعب الجزم بأن الاتفاق قد سقط تماما لأنه أوجد آليات للتعامل بين السلطة وإسرائيل ما زالت قائمة.

اليمين المتطرف (الليكود تحديدا) والمستوطنون يقيمون الوضع الراهن على أنه مشابه لما كان عليه قبيل توقيع اتفاق أوسوا، أى أنه يشير إلى هشاشة وضعف الموقف الفلسطينى سواء في الضفة أو القطاع. وإذا كانت هذه الهشاشة وذلك الضعف قد كان من وجهة نظرهم العامل الحاسم في إجبار الفلسطينيين العام 1993 على القبول باتفاق كهذا، فإن الهشاشة والضعف قائمان اليوم مثلما كان في ذلك الوقت، وعليه يتعين استغلال الفرصة من جانب إسرائيل، وتحقيق ما يسمونه بالانتصار الحاسم لإسرائيل على الفلسطينيين، أي فرض الأمر الواقع لإجبارهم على قبول ما ظلوا يرفضونه لسنوات طويلة منذ أن بدأت مسيرة السلام 1991. والأمر الواقع هنا هو تغيير المعادلة على الأرض لصالح الإسرائيليين من خلال التوسع الرهيب في الاستيطان بما لا يبقي للفلسطينيين شيئا مهما من الأراضي المحتلة. حينئذٍ لن تكون لديهم قضية يتحدثون عنها!!.

وفي المشهد هناك معطيات يتصور المستوطنون والسياسيون الإسرائيليون أنها تعزز هذا الطرح، منها أولا أن حجم المستوطنات يكاد يكون قد ابتلع الأرض الفلسطينية خصوصا في القدس، وحكومة نيتانياهو تشجع ذلك التوسع ولا تلقي بالا ببيانات الرفض من جانب السلطة الفلسطينية ومن المجتمع الدولي، كما تغض إدارة ترامب الطرف عمدا عن هذا التصرف (الإدارات السابقة كانت تدين وترفض). ومنها ثانيا: إن الحكومة الإسرائيلية أعطت الضوء الأخضر لوزرائها لاقتحام المسجد الأقصى وسط مؤيديهم في أي وقت مع التأهب الأمني لقمع أي صورة من صور الاحتجاج الفلسطيني. ومنها ثالثا: الحديث عن الخلافة السياسية للرئيس الفلسطيني، مع كل ما يستتبعه ذلك من إمكانية غياب القرار السياسي المناسب لمواجهة صعوبة المرحلة الراهنة. ويرتبط بذلك أن الرئيس عباس أصبح يرفض استئناف المفاوضات، خاصة بعد اعتبار أن الولايات المتحدة لم تعد وسيطا في عملية السلام، وأنها أخرجت نفسها منها، بقرار إدارة ترامب نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس. ومنها رابعا: المناورات السياسية التي تقوم بها إدارة ترامب في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وكلها تثير الشكوك والقلق على الجانبين العربي والفلسطيني، بينما تصب لصالح الموقف الإسرائيلي، سواء فيما يتعلق بما يسمى صفقة القرن التي لم تعلن رسميا من جانب الإدارة الأمريكية ب، رغم كثافة الحديث عنها كل يوم، وإن كانت معالمها قد تسربت منذ شهور وفندها صائب عريقات وأعلن رفض السلطة الفلسطينية لها، أو فيما يتعلق بالصدام المباشر مع عباس والضغط عليه للقبول باستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. ومنها خامسا أن الخلافات القائمة بين الكبار في المجتمع الدولي حول التجارة الدولية وملفات أخرى ساخنة في الشرق الأوسط كالأزمة السورية وتداعيات إلغاء الإدارة الأمريكية الاتفاق النووي مع إيران، تتيح مساحة واسعة للطرف الإسرائيلي للحركة في اتجاه فرض الأمر الواقع دون أن يلقى تصديا من هؤلاء الكبار.

لكل هذه المعطيات تشجع المستوطنون وأنصارهم في الساحة السياسية الإسرائيلية لعقد المؤتمرات وتكثيف الحملات الإعلامية للترويج لما يتمنوه من انتصار يصفونه بالحاسم على الفلسطينيين، ويدفعون الحكومة الإسرائيلية إلى فرض أمر واقع يسقط السلطة الفلسطينية وينهي قصة حل الدولتين تماما. ومع أن مخطط الاستيطان واضح للعيان أمام الإدارة الأمريكية وهدفه واضح أيضا، وهو إقصاء حل الدولتين، إلا أن هذه الإدارة تتجاهل كل المخاطر المترتبة على ذلك وتتجه إلى تدوير البوصلة نحو مقتربات أخرى تعمل على وضع الرئيس الفلسطيني أمام خيارين كل منهما أسوأ من الآخر، فإما أن يعود إلى مفاوضات تنتهي بوجود دولة ذات نظامين يصبح فيها الفلسطينيون مواطنين من الدرجة الثانية، وإما إسقاط السلطة الفلسطينية ذاتها من خلال الفصل بين الضفة وغزة تحت دعوى إنقاذ القطاع اقتصاديا وإنسانيا. وقد نسبت مصادر دبلوماسية غربية لإدارة ترامب أنها وضعت شرطا أساسيا لعودة السلطة الفلسطينية للمفاوضات المباشرة مع إسرائيل، هو أن يوافق عباس على إعادة إعمار غزة وتحسين ظروفها الاقتصادية والإنسانية، مع استعداد الإدارة للمساعدة في الإعمار. وأفادت المصادر أيضا بأن هذه الإدارة ستواصل جهودها الدبلوماسية في هذا الاتجاه لأنها لا تستطيع الإفصاح عن خطتها للسلام إلا بعد أن يبدأ الإعمار في القطاع. كما أفادت المصادر أن إسرائيل ستتجاوب مع الدعوة الأمريكية المفاجئة وسترفع الحصار!.

وببعض التأمل لهذا الخطاب الأمريكي الجديد يتضح أن الإدارة الأمريكية تريد جرجرة السلطة والأطراف العربية المؤثرة في عملية السلام، إلى مسار مختلف عن حل الدولتين قوامه الدولة الواحدة بنظامين، أى أن يشترك هذا الطرف وذاك فيما تصر هذه الإدارة على تطبيقه (إنهاء القضية الفلسطينية من الأساس). فمن الذي يعترض على إعادة الإعمار للقطاع أو على إنهاء الحصار ومعاناة مواطنيه المستمرة لأكثر من سنوات، ولكن من المشروع التساؤل عن سر التحول في الموقف الأمريكي وعن صدق هذا التوجه، ألم تتابع هذه الإدارة ومن سبقوها معاناة أبناء القطاع طوال تلك السنوات ولم يحركوا ساكنا، وألم تدرج الولايات المتحدة حماس في قائمة المنظمات الإرهابية، وألم تنقل سفارتها إلى القدس في تحدٍ صارخ لمواقف كل المنظمات الفلسطينية والدول العربية والإسلامية؟!. ومن أين جاءها التأكد من أن حماس ستقبل بهدنة طويلة الأجل بينما لا شئ يتحقق في القضية الفلسطينية. ألا يعني كل ذلك وضع إسفين في العلاقة بين فتح وحماس أشد مما هو قائم الآن! وبمعنى آخر القضاء على أي فرصة مستقبلية للمصالحة، وألا يشكل ذلك إحراجا لحماس التي ستبدو تحت طوع الولايات المتحدة على عكس مواقفها المبدئية منها تماما مثلما يشكل إحراجا لأي طرف عربي يشارك في المسار الأمريكي الجديد، حيث التماهي مع هذا الموقف بمبرر العمل على إنقاذ القطاع، ولماذا المساومة إذا كانت النيات الأمريكية صادقة فعلا، أليس من الأفضل عدم اللجوء لهذا الأسلوب. والأهم من هذا وذاك أنه إذا كان الهدف هو الحلحلة فقد كان من الواجب أن تتقدم إسرائيل بمبادرة لإثبات حسن النية أولا حتى يكون هناك مبرر للتجاوب مع التحرك الأمريكي الجديد، ولكن ما حدث هو تصرف أمريكي للإيقاع بالأطراف الفلسطينية والعربية في فخ الخطة الأمريكية - الإسرائيلية.

إعادة إعمار غزة تأخذ مسارها الصحيح من خلال حل سياسي شامل يقبله الجميع، وبعد مصالحة فلسطينية حقيقية. حل يعيد كافة الحقوق الفلسطينية المشروعة، وينهي الاحتلال، وليس عبر المساومة، والفصل بين القطاع والضفة، وإلغاء السلطة الفلسطينية. وما يروجه المستوطنون وأنصارهم في الحكومة الإسرائيلية عن انتصار منتظر، ما هو إلا وهم تكررت صوره من قبل كثيرا، ولم يتحقق بالطبع، وما يجري الآن يلقي نفس المصير، لحقيقة بسيطة هي أن لا أحد في الجانب الفلسطيني أو العربي يقبل بتحمل تبعاته.