1387764
1387764
تقارير

ممرّض بوسني .. ذاكرة حية تنبش مجزرة «سربرنيتسا»

10 يوليو 2018
10 يوليو 2018

بوتشاري (البوسنة والهرسك) - «الأناضول»: التفاصيل القاتمة لمجزرة «سربرنيتسا» التي حصدت، في يوليو 1995، أرواح آلاف مسلمي «البوشناق» في البوسنة والهرسك، لا تزال عالقة بذاكرة سوليو جاكانوفيتش، أحد الممرّضين الذين أسعفوا المصابين برصاص القوات الصربية، و«البوشناق» هم مسلمو إقليمي البوسنة والهرسك وجوارهما.

إبادة قضى فيها نحو 8 آلاف شخص، وأجبرت أعدادا ضخمة من المسلمين على النزوح من «سربرنيتسا»، تلك المدينة الجبلية الصغيرة الواقعة شرقي البوسنة والهرسك، وحيث وقف جاكانوفيتش، ذات يوم، يساعد الفارين منها عبر «طريق الموت»، من جحيم القوات الصربية.

ويطلق البوسنيون على الغابات التي فروا عبرها خارج سربرنيتسا اسم «طريق الموت»، لأنّ القوات الصربية كانت تنصب فيها الكمائن لإبادتهم.

وتعد مجزرة «سربرنيتسا» أكبر مأساة إنسانية وقعت في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، نظرًا لكم العنف والمجازر والدمار الذي تخللها.

تلك الأيام لا تزال حية في ذاكرة جاكانوفيتش، الذي كان يهرع بكل ما تبقّى لديه من قوة جسدية، لإسعاف المصابين من الأعيرة النارية التي اخترقت أجساد المدنيين خلال رحلة فرارهم من مدينة اختبرت أسوأ أنواع المجازر عبر التاريخ الإنساني الحديث.

وفي حديث للأناضول، قال جاكونوفيتش: «كنت أدافع مع أقراني عن بلدة سربرنيتسا ضد الأعداء حتى قبل سقوطها بأيام قليلة»، وأضاف: «كنت أشعر بتعب وإرهاق كبيرين، خرجت من مواقع القتال، وذهبت إلى منزلي واصطحبت زوجتي وولدي الذي كان في عامه الأول من عمره، ثم انطلقنا خارج المدينة».

وبخروجه من سربرنيتسا، أمضى جاكانوفيتش وعائلته الصغيرة 6 أيام في طريق تشق غابات محفوفة بالمخاطر، متجها نحو مدينة «طوزلا» التي كانت تحت سيطرة البوسنيين.

وبوصوله إلى منطقة «كامينيتسا» (شرق)، ازدحمت الشوارع بعدد كبير من جثث المدنيين البوسنيين ممن قضوا بنيران القوات الصربية.

ومتابعا مستعيدا صفحة قاتمة من حياته وتاريخ بلاده: «باعتباري ممرضا، شعرت بمسؤولية كبيرة على عاتقي في تلك اللحظات العصيبة».

ومضى يقول: «لكنني كنت أفتقر إلى اللوازم الطبية لتضميد جراح المصابين، غير أن حتى هذه العقبة لم تثننِ عن مساعدة الجرحى، وأعتقد أنني أنقذت حياة العديد منهم في تلك المنطقة».

وأشار إلى أنه أول شخص تمكن من الوصول إلى منطقة «كامينيتسا» من بين مجموعة المدنيين الذين رافقوه في رحلة هروبه من سربرنيتسا، لافتا إلى أنه أصيب بجراح خفيفة خلال رحلته العصيبة.

نجح جاكانوفيتش في عبور «طريق الموت» والفرار من مدينته التي حولتها القوات الصربية إلى مقبرة جماعية لسكانها من المسلمين «البوشناق»، لكن الآلاف فشلوا في ذلك، ليلقوا حتفهم في الطريق وعلى جوانب الغابات وبين فروع أشجارها.

ومع أن جاكانوفيتش فرّ بنجاح، لكنه اضطر، في العديد من المرات، للعودة إلى «طريق الموت»، بحثا عن شقيقه الأصغر الذي كان من المفترض أن يلحق به إلى «كامينيتسا». وفي كل مرة كان يعود فيها إلى ذلك الطريق، كان يقف على مشاهد مؤلمة يندى لها الجبين، وعن ذلك يقول: «مررت على مجموعات من الأشخاص كانوا في وضع يرثى له.. كانوا جوعى وعلى وشك الهلاك، خصوصا أنهم تعرضوا لحملة تجويع (من قبل الصرب) طيلة 3 سنوات..».

وتابع: «بعضهم لم يعد يقوى حتى على الوقوف، فارتمى على جانبي الطريق، فيما ترتفع حشرجة آخر محتضرا وسط عجز جميع المحيطين عن القيام بأي شيء لإنقاذه». مشاهد بشعة وتقشعر لها الأبدان عاينها البوسني في «طريق الموت»، معتبرا أن «ما صادفه في طريق الموت من مشاهد لا يمكن للعقل البشري أن يتخيلها.. تعرضت لظروف لم أعرف فيها صاحب العضو الذي أعالجه، وواجهت صعوبات كبيرة لافتقاري للوازم الطبية». وبفضل حسّه الإنساني، نجا الكثيرون من مجزرة الصرب، بل قال: إنه يعرف شخصيْن ما زالا على قيد الحياة، أنقذهما من موت حقيقي خلال المجزرة.

وفي 11 يوليو 1995، لجأ مدنيون بوسنيون من «سربرنيتسا» إلى حماية الجنود الهولنديين، بعدما احتلت القوات الصربية المدينة الصغيرة، غير أنّ القوات الهولندية أعادت تسليمهم للقوات الصربية.

وقضى في تلك المجزرة أكثر من 8 آلاف بوسني من الرجال والفتيان من أبناء المدينة، وسمحت للأطفال والنساء فقط بالخروج منها.

وارتكبت القوات الصربية العديد من المجازر بحق مسلمين، إبان فترة «حرب البوسنة»، التي بدأت في 1992 وانتهت في 1995، عقب توقيع اتفاقية «دايتون»، وتسببت الحرب بإبادة أكثر من 300 ألف شخص، وفق أرقام الأمم المتحدة.

ودفن الصرب المسلمين البوسنيين في مقابر جماعية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، أطلقت البوسنة أعمال البحث عن المفقودين وانتشال جثث القتلى من المقابر وتحديد هوياتهم.

ودأبت السلطات البوسنية، في ذكرى المذبحة التي تصادف 11 يوليو من كل عام، على إعادة دفن مجموعة من الضحايا، الذين توصلت إلى هوياتهم، في مقبرة «بوتشاري».