أفكار وآراء

الإعلام الوطني وتراكم التأثيرات

10 يوليو 2018
10 يوليو 2018

أ.د. حسني نصر -

كثيرا ما يطرح البعض تساؤلات عن وسائل الإعلام الوطنية ومدى الحاجة لها في عصر أصبحت فيه الرسائل الإعلامية والإخبارية تطل علينا من كل مكان. ويتعجب هؤلاء من استمرار إنفاق الدول على وسائل إعلام تتراجع تأثيراتها بشكل مستمر، في ظل انتشار وتمدد الإعلام الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي. ورغم وجاهة السؤال فإن من المهم الإقرار بأن الإعلام الوطني ونعني به إعلام الدولة، أثبت أنه لا غنى عنه في الوقت الحالي، خاصة وأن الوظائف التي يؤديها للمجتمع والدولة، لا يمكن لغيره القيام بها. أما الحديث عن تراجع التأثير فيبدو من وجهة نظري، إنه حديث منقوص لأنه يركز على جانب واحد من تأثيرات الإعلام، وهو التأثير قصير المدى على الأفراد ويتجاهل التأثير طويل المدى في المجتمع وثقافته. من المهم أن نعترف بأن وسائل الإعلام الوطنية ما زالت تلعب دورا مهما في مجتمعاتنا العربية، خاصة في نقل المعارف والمعلومات إلى الجمهور، والتعبئة وحشد الرأي العام، لدعم قضايا التنمية والأمن الوطني. وعلى هذا الأساس يصبح من الضروري أن نوضح أهمية ما نطلق عليه التأثير الوظيفي لوسائل الإعلام، أي التأثير الذي يأخذ في اعتباره الظروف الأخرى التي تشارك في التأثير على الفرد وعلى المجتمع. وتقوم فكرة هذا التأثير علي حقيقة أن تأثير وسائل الإعلام يكون غير مباشر في أغلب الأحوال، ويعمل ويكتمل من خلال مؤثرات وسيطة قد تكون خارجة عن عملية الاتصال، كما أن وسائل الإعلام تعمل في أغلب الأحوال كعامل مكمل لإحداث التأثير، وأن كانت في بعض الأحوال تكون السبب الرئيسي أو الضروري لإحداث التأثير. لقد كان من أهم التطورات في مجال الإعلام الموازنة بين التأثيرات قصيرة المدى وبين التأثيرات غير المباشرة والطويلة المدى. فوسائل الإعلام تحقق أثرها المباشر بإمداد الجمهور بالمعلومات والأحكام عن الشؤون العامة التي تكون خارج نطاق خبرات أفراده. ولا يختلف أحد على أن وسائل الإعلام الوطنية ما زالت تقدم لجمهورها تصوراتهم عن العالم المحيط بهم، سواء القريب منهم (البيئة المحلية) أو البعيد عنهم (البيئة العالمية). وعلى هذا فإن افضل رد على المشككين فى جدوى وسائل الإعلام الوطنية، والمنادين بتخلي الدولة الوطنية عن دورها الإعلامي، يجب أن يبدأ بإيضاح أهمية هذا الإعلام على المدي الطويل، تلك الأهمية التي عبرت عنها نظرية إعلامية شهيرة تسمى نظرية تراكم التأثيرات الضعيفة أو التأثيرات المتراكمة لوسائل الإعلام. وتنطلق هذه النظرية، التي شرحناها بالتفصيل في كتاب «نظريات الإعلام» الصادر في العام 2015، من مقولة إن التأثيرات الضعيفة لوسائل الإعلام على الأفراد تتراكم مع الزمن لتشكل تأثيرا قويا على المجتمع وثقافته، ومن ثم تلعب وسائل الإعلام دورا مهما في إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي في المجتمع. وتفترض هذه النظرية أن تأثيرات الرسالة الإعلامية على الفرد تأثيرات ضئيلة، ولكن هذه التأثيرات الضئيلة تتراكم بين الجمهور بمرور الوقت. وتتضح هذه التأثيرات في تزايد عدد الأشخاص الذين يعدلون أو يغيرون معتقداتهم، وفهمهم للأمور واتجاهاتهم نحو القضية أو القضايا التي تركز وسائل الإعلام على تقديمها من وجهة نظر معينة. وعندما يحدث ذلك فإن تغيرا واضحا يحدث في اتجاهات ومعتقدات الأفراد على المدى الطويل. ويحدث التأثير المتراكم طويل المدى في المجتمع عندما يتبنى الأفراد أنماطا جديدة من التفكير والثقافة وطرقا جديدة لحل مشكلة أو مشكلات قديمة أو طريقة محددة للاعتقاد والسلوك. ولكي نفهم التأثيرات المتراكمة لوسائل الإعلام ينبغي أن نحدد العوامل أو الشروط اللازمة لتراكم التأثيرات المحدودة، وكلها تنطبق على الإعلام الوطني في غالبية الدول العربية. إذ إن هذا التحديد يمكن أن يوضح لنا كيف يمكن أن يكون لوسائل الإعلام دور مهم في تشكيل أنماط التفكير والثقافة على المدى الطويل. والواقع أن هناك شروطا ثلاثة يجب أن تتوافر في الموضوع أو القضية التي تثيرها وسائل الإعلام قبل أن تبدأ نظرية التأثيرات المتراكمة في العمل لتفسير التأثير على المدى الطويل، وهي ضرورة أن تركز الوسائل أو الوسيلة على القضية أو الفكرة أو الموضوع بانتظام، أي تقوم بعرضها بشكل متكرر ومنتظم، وضرورة التوافق في طريقة التقديم داخل الوسيلة أو في الوسائل المختلفة، في المحتوى والموقف، وتعاون وسائل الإعلام الرئيسية في المجتمع مثل الصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون في عرض القضية أو الفكرة أوالموضوع. ولا شك أن الإعلام الوطني يوفر هذه الشروط بشكل كبير.

الأمثلة التي تؤكد صحة هذه النظرية كثيرة، ومنها قضية إرسال قوات مشاة البحرية الأمريكية إلى الصومال في بداية التسعينات من القرن الماضي. فقد كان للمعالجة الإعلامية المتواصلة والمتوافقة والشاملة التي قدمت بها وسائل الإعلام الأمريكية -رغم تنوعها - هذه القضية تأثيرات بالغة الأهمية على المجتمع الأمريكي. إذ كانت المرة الأولى بعد حرب فيتنام التي تتدخل فيها الولايات المتحدة عسكريا في الشؤون الداخلية لدولة أخرى دون وجود معارضة شعبية، بل على العكس حظي هذا التدخل بقبول وتشجيع الغالبية من الأمريكيين. وقد حدث هذا بسبب تراكم التأثيرات الضعيفة لرسائل وسائل الإعلام. ففي عامي 1991 و1992 شاهد الأمريكيون كل يوم تقريبا صور المجاعة التي كان يعاني منها الشعب الصومالي، صور الأطفال الذين يموتون جوعا. وقدمت وسائل الإعلام الأمريكية القضية على أن السبب في المأساة هم رؤساء الفرق الصومالية المتصارعة، وانهم يمنعون وصول إمدادات الإغاثة الإنسانية إلي الجوعى. ولم تقدم وسائل الإعلام أي رؤى مخالفة لهذه الرؤية، كما لم تطالب أي منها بعدم التدخل أو تجاهل أمريكا للأمر. وعلى هذا كانت الرسائل المنتظمة التي قدمتها وسائل الإعلام عن الأوضاع في الصومال متوافقة ومتواصلة ومتكاملة. وبالتالي تم تهيئة الرأي العام الأمريكي بطريقة جعلت الرئيس جورج بوش قادرا على اتخاذ قرار إرسال القوات الأمريكية إلى الصومال.

وهناك أمثلة أخرى تدعم نظرية التأثيرات المتراكمة، مثل دور وسائل الإعلام في بناء وتشكيل معتقدات وآراء الأمريكيين حول حرب فيتنام وتغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم نحوها. ففي هذه الحرب لعبت وسائل الإعلام الأمريكية دورا بارزا في إعادة تشكيل اتجاهات الأمريكيين نحو الحرب من خلال التأثير البطيء والمتراكم للرسائل الإعلامية التي كانت تنشرها وتبثها حول الحرب الدموية ومظاهر الاحتجاج الجماهيري على استمرارها، خاصة مظاهرات طلبة الجامعات، الأمر الذي أدى إلى إيجاد شعور عام بعدم الرضا عن استمرار الحرب، دفع القادة السياسيين إلى إنهائها. وهناك أمثلة عديدة أخرى تؤكد أن لوسائل الإعلام تأثيرات بطيئة وطويلة المدى، مثل تغيير الاتجاهات والسلوكيات الاجتماعية الخاصة بنوعية الغذاء، وممارسة التمرينات الرياضية، وخطورة تناول الكحوليات والمخدرات، وتحديد خطر مرض الإيدز ودفع المجتمع إلي الاستثمار في البحث عن علاج له.

إجمالا يمكن القول إن دعوة البعض إلى تخلي الدولة الوطنية في عالمنا العربي عن دعم وسائل الإعلام، ترشيدا للإنفاق العام، تتجاهل الحقائق العلمية التي ما زالت تؤكد الحاجة الملحة إلي هذه الوسائل حتى وان بدا للبعض أنها أصبحت غير ذات جدوى اقتصادية.